Sat, 27th Apr, 2024 / 18 Shawwal 1445
السبت ٢٧ , أبريل , ٢٠٢٤ / 18 شَوَّال‎ 1445
Sat, 27th Apr, 2024 /
18 Shawwal, 1445
السبت ٢٧ , أبريل , ٢٠٢٤ / 18 شَوَّال‎ , 1445

قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)} [سورة يوسف].

هو يُوسف ابن نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وقد أعطي يوسفُ عليه السلام شطرَ الحُسن.

 وقد أثنى اللهُ عليه ووصفه بالعفة والنزاهة والصبر والاستقامة قال تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [سورة يوسف]. كما أثنى عليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: “إنّ الكريمَ ابنَ الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسفُ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم” رواه البخاري. وذُكر اسم يوسف عليه السلام في القرءان الكريم في ست وعشرين ءاية، منها أربع وعشرون ءاية في سورة يوسف، وءاية في الأنعام، وءاية في سورة المؤمن (أي غافر).

وهو من أشهر أنبياء بني إسرائيل، وقد ذُكرت قصةُ سيدنا يوسف عليه السلام في سورة يوسف مُفصلة، وفيها بيانٌ لحياته ومِحنته مع إخوته ومِحنته مع امرأةِ العزيز، ودخولِه السجن ودعوتِه فيه إلى الله تعالى، ثم خروجه من السجن وفيها تفسيرُه الرؤيا للملِك واستلامه لخزائن الأرض أي أرض مصر، ثم مجيء إخوته إلى مصر بسبب القحط، وإبقاؤه لأخيه بنيامين عنده، ثم اجتماعه بأبيه وإخوته ودخولهم عليه وسجودهم له على وجه التحية والتعظيم وكان ذلك جائزًا في شريعتهم، إلى غير ذلك من إشارات دقيقةٍ وعظات بالغة يُستفاد بها من حياة هذا النبي الكريم.

إخوته عليه السلام والأسباط

وتقدم أن يعقوب عليه السلام تزوج ابنتي خاله “ليّا” و”راحيل” وجمع بينهما وكان ذلك جائزًا في شريعتهم، ثم نسخ في شريعة التوراة، وأنهما ولدتا له عددًا من الأولاد.

وليعلم أن الأسباط هم ذرية إخوة يوسف عليه السلام وهم شعوب بني إسرائيل، وكان يوجد فيهم أنبياء نزل عليهم الوحي، ولم يكن من أولاد يعقوب نبيٌّ غير يوسف عليه السلام إلا أن هناك احتمالاً أن يكون بنيامينُ نبيًّا، وأما ما ذهب البعض إليه من القول بنبوة إخوته فمردودٌ، لأنَّ النبوة لا تصح لإخوة يوسف الذين فعلوا تلك الأفاعيلَ الخسيسة وهم من سوى بنيامين، فالأسباط الذين أُنزل عليهم الوحي هم من نُبِّىء من ذريتهم.

قصة يوسف الصديق في القرءان

وكان يعقوب عليه السلام يحب ابنه يوسف وبنيامين كثيرًا ويؤثرهما بزيادة المحبة على إخوتهما لِمَا لهما من المحاسن كحُسن الخلق وكان ذلك سببًا في حقد إخوتهما عليهما، وسببًا في محنة يوسف التي ابتُلي بها ونال بها الدرجاتِ العلى عند الله.

رُؤيا يوسف عليه السلام في المنام

فقد رأى يوسفُ عليه السلام في المنام وهو صغير لم يحتلم أن أحدَ عشر كوكبًا والشمس والقمر تسجد له، قال المفسرون: كانت الكواكبُ في التأويل إخوته، والشمسُ أمه، والقمرُ أباه، فَقَصَّ يوسف عليه السلام هذه الرؤيا على أبيه قيل: كان عمره وقتئذ اثنتي عشرة سنة، فأشفق عليه أبوه يعقوب من حسد إخوته له، قال تعالى إخبارًا عن قول يعقوب :{قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا(5)} [سورة يوسف] أي يدبروا حيلة لإهلاكك لأن الشيطان للإنسان عدو مبين.

قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} [سورة يوسف].

ولقد علم يعقوب عليه السلام أنه سيكون لابنه يوسف شأنٌ عظيم وسينالُ رتبةً عاليةً ورِفعةً ساميةً في الدنيا والآخرة، لذلك أمره بكتمان ما رأى في المنام وألا يقصّها على إخوته خوفًا عليه من كيدهم وحسدهم.

حَسَدُ إخوته وحقدهم عليه وعزمهم على التخلص منه

كان بقية أبناء يعقوب عليه السلام يحسدون يوسف وشقيقه بنيامين على هذه المحبة والخصوصية لهما وهم يعتبرون أنفسهم جماعة أقوياء نافعين له وأحق بمحبته قال تعالى:{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)} [سورة يوسف] وازداد كره إخوته وحسدُهم ليوسف خاصة لمَّا علموا بأمر رؤياه، ولذلك تآمروا فيما بينهم على أن يُفرقوا بينه وبين أبيه، وتشاوروا فيما بينهم على قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ليخلو لهم وجه أبيهم أي لتتمحَّض محبتُه لهم عن شغله بيوسف، وقالوا سنتوب بعد ذلك لنكون من الصالحين، قال الله تعالى حكاية عنهم:{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)} [سورة يوسف].

ولكنَّ قائلاً منهم قيل هو أخوه يهوذا وقيل غيره، قال لهم: لا تقتلوا يوسف، وأمرهم أن يلقوه في قعر البئر فيلتقطه بعض المارة من المسافرين فيأخذونه وبذلك يتخلصون منه.

قال الله تبارك وتعالى:{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)} [سورة يوسف] وأخذ عليهم أخوهم يهوذا العهودَ أنهم لا يقتلونه، فأجمعوا عند ذلك على أن يدخلوا على يعقوب ويُكلّموه في إرسال يوسف معهُم إلى البريّة ليلعب معهم ويأكل، لذلك دخلوا على أبيهم وطلبوا منه أن يسمح لهم باصطحاب يوسف إلى الصحراء وتعهدوا له أن يحافظوا عليه:{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)} [سورة يوسف].

وكان يعقوبُ عليه السلام قد خطر له ما يُضمره بنوه لأخيهم يوسف، وكان يعزُّ عليه أن يذهبوا به لأنه كان يخشى عليه منهم، لذلك أراد أَن يثنيهم عن هذا الأمر بقوله:{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)} [سورة يوسف].

وهو كان يتخوفُ على يوسف من عدوانهم أكثر مما يتخوف عليه عدوان الذئب ولكنهم كانوا بارعين في الدهاء لذلك قال تعالى:{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)} [سورة يوسف] أي لئن أكله الذئب ونحن جماعة كثيرون نكون إذًا عاجزين هالكين.

تنفيذ إخوة يوسف مؤامرتهم بإلقاء يوسف في البئر لإهلاكه

أرسل يعقوب يوسف عليهما السلام مع إخوته لئلا يَشعروا أن أباهم يخشى عليه منهم فيدبّروا له مكيدة في غيابه فأرسله معهم على كرْهٍ ومَضَض، وما إن غابوا به عن عينه انطلقوا به إلى البئر ليَطرحوه فيه فخلعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، لِمَ نزعتم قميصي؟ رُدّوه عليَّ أستر به عورتي ويكن كَفَنًا لي في مَمَاتي، فقالوا له: ادع الشمسَ والقمرَ والأحد عشر كوكبًا تؤنسك، ثم أدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت، فكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها وجعل يَبكي، فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم، فأرادوا أن يرجموه بالحجارة فمنعهم أخوه يهوذا، ولما ألقوه في قعر البئر أوحى الله إليه أنه لا بُدّ من فَرَجٍ ومخرج من هذه الشدة والضيق ولتُخبرنَّ إخوتك بصنيعهم هذا في وقت يكون لك فيه العِزة والسيادة عليهم وهم لا يَعلمون أمرك، قال الله تعالى:{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15)} [سورة يوسف].

تَلطيخُ قميصِ يوسف بدمٍ مكذوب لإخفاء الجريمة

وبَعد أن ألقى إخوة يوسف أخاهم في البئر أرادوا أن يُخْفوا جريمتهم، لذلك عمدوا إلى جَدْي من الغنم فذبحوه ثم غمسوا قميص يوسف في دمه ورجعوا إلى أبيهم يعقوب في وقت العشاء يبكون، وإنما جاءوا وقت العتمة ليكونوا أجرأ في وقت الظلام على الاعتذار بالكذب، فلمَّا دنوا منه صرخوا صراخ رجل واحد ورفعوا أصواتهم بالبكاء والعويل، فلما سمع يعقوب عليه السلام صوتهم فزع وقال: مَا لَكم يا بَنيَّ، هل أصابكم في غنمكم شىء؟ قالوا: لا، قال: فما أصابكم وأين يوسف؟ فقالوا له كاذبين: يا أبانا إنَّا ذهبنا للسباق والرمي بالسهام وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وأنت لَسْتَ بمصدقنا ولو كنا صادقين.

قال تعالى:{وَجَاءُو أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} [سورة يوسف].

وعندما سمع يعقوب عليه السلام كلام أبنائه وما ادعَوْه بَكَى وقال لهم: أين القميص؟ فجاءوا بالقميص عليه دم كذب وليس فيه خرقٌ، ويُروى أنَّ يعقوب عليه السلام أخذ القميص وأخذ يقلبُهُ وقال لهم متهكمًا: ما أحلم هذا الذئب الذي أكل ابني دون أن يمزق ثوبه!! وقال هذا الكلام تَعريضًا بكذبهم وإيذانًا لهم بأن صنيعهم ومكرهم هذا لم يَمرَّ عليه،

قال الله تعالى:{وَجَاءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} [سورة يوسف] أي لقد زينت لكم أنفسكم أمرًا غير ما تصفون فصبر جميل وربي المعين على ما تصفون من الكذب.

إنقاذُ يوسفَ عليه السلام من البئر

أقام يوسف عليه السلام في البئر ثلاثة أيام وكان البئر قليل الماء ومرت قافلة من القوم أمام البئر الذي أُلقِي فيه يوسف عليه السلام فبعثوا من يستقي لهم الماء من البئر، فلمَّا أَدلى دَلوه في البئر الذي فيه يوسف عليه السلام تعلق به، فلما نَزَعَ الدَّلوَ يحسبها قد امتلأت ماءً، إذا بها غلامٌ جميل حَسَنُ الوَجه مُشرق المُحيَّا فاستبشر الرجل به وقال لأصحابه: يا بُشرى هذا غلام، فأقبل أصحابُه يسألونه الشركةَ فيه واستخرجوه من البئر، فقال بعضهم لبعض: اكتموه عن أصحابكم لئلا يسألوكم الشركة فيه، فإن قالوا: ما هذا؟ فقولوا: استبضعناه أهل الماء ـ أي وضعوه معنا بضاعة ـ لنبيعه لهم بمصرَ ولمَّا استشعرَ إخوةُ يوسف عليه السلام بأخذ القافلةِ ليوسفَ عليه السلام لَحقُوهم وقالوا: هذا غلامنا (أي عبد لنا) أَبقَ وهرب منا فصدّقهم أهل القافلة فاشتروه منهم بثمن بخس وقليل من الدراهم المعدودة، قال الله تعالى:{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ(20)} [سورة يوسف].

بَيعُ يوسفَ عليه السلام لعزيز مصر ووزيرها

ولما ذهبت القافلة ومعها يوسف عليه السلام إلى مصر، وَقَفوا في سُوقِ مصرَ يعرضونه للبيع، فأخذ الناس في مصر يتزايدونَ في ثمنه حتى اشتراه منهم عزيزُها وهو الوزير المؤتمن على خزائنها يقال له “قطفير” وكان ملكُ مصر يومئذٍ “الرَّيان بن الوليد” وهو رجلٌ من العمالقة، وذَهَب الوزيرُ الذي اشترى يوسف عليه السلام به إلى منزله فرحًا مسرورًا بيوسف وقال لامرأته واسمها زَليخا وقيل: راعيل: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [سورة يوسف] وكان هذا الوزير لا يأتي النساء ولا يميل لهنَّ وكانت امرأته “زليخا” امرأة جميلة حسناء ناعمة في مُلكٍ ودُنيا.

ولما رأى هذا الوزيرُ في يوسف عليه السلام الذكاءَ والأمانةَ والعلمَ والفهمَ جعله صاحبَ أمره ونهيه والرئيسَ على خَدَمِه وهذا إكرام من الله حيث قَيَّضَ الله تبارك وتعالى ليوسفَ الصدّيقِ عليه السلام العزيزَ وامرأتَه يُحسنان إليه ويَعتنيان به، كما أنقذه من إخوته حِين هَمُّوا في البداية بقتله إلى أن أَلْقوه في البئر ثم أخرجه منه وصيّره إلى هذه الكرامة والمنزلة الرفيعة عند عزيز مصر ووزيرها، ومَكن له في الأرض وجَعَله على خزائِنها وتولاه الله بعنايته وعَلَّمه من لَدنْه علمًا عظيمًا وأعطاه عِلمَ تعبير الرؤيا والله تعالى غَالِبٌ على أمره نافذ المشيئة في مخلوقاته، فعّال لما يريد لا أحدَ يمنع ما شاءه الله وقدّره، يقول تعالى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحاديث وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)} [سورة يوسف].

ولمَّا بلَغَ يوسفُ عليه السلام شدته وقوته في شبابه وبَلَغَ أربعين سنة ءاتاه الله الحُكم والعِلم وجعله نبيًّا، وكذلك يجزي اللهُ المُحسنين من عبادِه القائمين بأمره المهتدين إلى طاعته، قال تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ءاَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)} [سورة يوسف].

مِحْنة يوسفَ عليه السلام مع امرأة العزيز

أقامَ يُوسف عليه السلام في بَيت عزيز مصر ووزيرها مُنعَّمًا مُكرمًا وكان فائق الحسن والجمال، فلما شب وكبر أحبَته امرأةُ العزيز حبًّا جمًّا وعَشقته وشغفها حبُّه لما رأت من حُسنه وجَماله الفائق. وذات يوم وقيل: كان عمر يوسف سبعة عشر عاما أرادت امرأةُ العزيز أن تحمله على مُواقعتها وما يريدُ النساء من الرجال عُنوةً، وهي في غاية الجمال والمال والمَنصب والشباب، وغلقت الأبواب عليها وعليه، وتهيأت له وتَصَنعت ولَبِست أحسنَ ثيابها وأفخرها ودعته صراحة إلى نفسها من غير حياء وطلبت منه ما لا يليقُ بحاله ومقامه، والمقصودُ أنها دَعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحِرْص، ولكن هيهات هيهات.. وهو النبيُّ العفيفُ الطاهر المعصوم عن مثل تلك الرذائل والسَّفَاهات والفواحش وهو نبيٌّ من سُلالة الأنبياء الذين يستحيلُ عليهم الرذائل والفواحش. لذلك أبى يوسفُ عليه السلام ما دعته إليه امرأة العزيز، وامتنع أشد الامتناع وأصر على عصيان أَمرها وقال: مَعاذ الله، أي أعوذُ بالله أن أفعل هذا، ثم قال لها: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)} [سورة يوسف] وقال تعالى :{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)}.

وأمام إباء يوسف عليه السلام عن مطاوعة امرأة العزيز، وأمام عفته وإصراره على عدم الوقوع معها في الحرام، ازدادت هي إصرارًا على الهَمِّ بالرذيلة فأمسكت به تريدُ أن تجبره على مواقعتها وارتكاب الفاحشة معها من غير حشمة وحياء، فصار عليه السلام يحاولُ أن يتخلصَ منها، فأفلتَ من يدها فأمسكت ثوبه من خَلف فتمزق قميصه، وظلت تلاحقه وهما يَستبقان ويتراكضان إلى الباب هو يريدُ الوصول إليه ليفتحَه ليتخلصَ منها يدفعُه إلى ذلك الخوفُ من الله مولاه، وهي تريد أن تحول بينه وبين البابِ تدفعُها إلى ذلك الشهوة الجامحة والاستجابة لوساوس الشيطان، وفي تلك اللحظات وصل زوجُها العزيز فوجدهما في هذه الحالة، فبادرته بالكلام وحرضته عليه وحاولت أن تنسبَ إلى يوسفَ عليه السلام محاولة إغوائها والاعتداء عليها مدعية أنها امتنعت وهربت منه فنسبت إلى يوسف الخيانة وبَرّأت نفسها، لذلك ردّ نبيّ الله يوسف عليه السلام التهمة عن نفسه وقال: هيَ راودتني عن نَفْسي، يقولُ الله تبارك وتعالى:{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [سورة يوسف].

وأمَّا قولُه تعالى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبهِ} [سورة يوسف] فمعناه أنَّ امرأة العزيز همت بأن تدفعه إلى الأرض لتتمكن من قضاء شهوتها بعد وقوعه على الأرض وهو هم بأن يدفعها عنه ليتمكن من الخروج من الباب لكن لم يفعل،

لأن الله ألهمه أنه لو دفعها لكان ذلك حجة عليه عند أهلها بأن يقولوا: إنما دفعها ليفعل بها الفاحشة، وهذا معنى قول الله تعالى: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ ربِهِ} أي لولا أنه رأى برهانًا من الله لدفعها، فلم يدفعها بل أدار لها ظهره ذاهبًا إلى الباب فلحقته فشقت قميصه من خلف فكان الدليلُ والحجة عليها ولو ضربها ودفعها لكان ضربُه ودفعه إياها حجة لها عليه، لأنها تقول: راودني فمنعته فضربني.

والذي يجب أن يُعتقد أن الله تبارك وتعالى عصم نبيه يوسف عليه السلام ونزهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها، كما صان وعصم سائرَ أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام لأنَّ الأنبياء كما أجمع علماء الإسلام أنه تجب للأنبياء الصيانة، فيستحيل عليهم الرذائل والسفاهة والجبن، ولهذا قال الله تبارك وتعالى في حَقِّ يوسف عليه السلام نافيًا عنه السُّوء والفحشاء ومُطهّرا إياه من قصد الفاحشة والهمّ بالزنى{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [سورة يوسف].

لذلك لا يصحُّ ما يُروى عن بعض المفسرين أنه حلَّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل من امرأته، فإن هذا باطل لا يليق بنبي من أنبياء الله تعالى، وكذلك ما في تفسير الجلالين وغيره أن يوسف قصد الزنى بها فإنه لو كان حصل هذا من يوسف لكان فيه دليل على العزم والأنبياء صلوات الله عليهم معصومون من العزم على الزنى والفاحشة ومقدماتها، قال تعالى في بيان براءة نبيه يوسف عليه السلام:{قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)} [سورة يوسف].

تَبْرئةُ يوسف عليه السلام ممَّا اتهمته به امرأةُ العزيز

بَعد أن اتهمت امرأةُ العزيز يوسفَ عليه السلام بأنه حاول الاعتداء عليها بالفاحشة وبرأت نفسها ردّ يوسف عليه السلام هذه التُهمة عنه وقال: هي راودتني عن نفسي، وفي هذا الموقف أنطقَ الله القادر على كل شىء شاهدًا من أهلها وهو طفل صغير في المهد لتندفع التهمة عن يوسف عليه السلام وتكون الحجة على المرأة التي اتهمته زورًا ولِتظهر براءةُ يوسف عليه السلام واضحة أمام عزيز مصر ووزيرها، فقال هذا الشاهد من أهلها:{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)} [سورة يوسف] أي لأنه يكون قد راودها فَدَفَعَته حتى شَقّتْ مُقَدَّمَ قميصِه فتكون التُّهمة بذلك على يوسف، ثم قال:{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} [سورة يوسف] أي لأنه يكون قد تركها وذهب فتبعته وتعلقت به من خلف فانشقَّ قميصه بسبب ذلك وتكون التهمة بذلك على امرأة العزيز، فلمّا وجد العزيز أنَّ قميصَ يوسف قد انشق من خَلف خاطَب زَوجتَه وقال لها:{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)} [سورة يوسف] أي هذا الذي جرى من مَكركُنَّ، أنت راودته عن نفسه ثم لتدفعي التُّهمة عن نفسِك اتهمته بالباطل والبهتان.

ثم قال زوجها ليوسفَ عليه السلام بعد أن ظهرت براءته:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [سورة يوسف] أي لا تذكرْه لأحد لأن كتمان مثل هذه الأمور في ذلك الحين أحسن، ثم أمر زَوجته بالاستغفار لذنبها الذي صَدَر منها والتوبة إلى ربها وقال لها: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [سورة يوسف] يعني من المُذنبين الآثمين.

وبذلك ظهرت براءةُ يوسف عليه السلام ظهورَ الشمس في وضح النهار، وظهر للعزيز عفة يوسف عليه السلام، وأنه نزيه العِرض سليمُ الناحية، وأنه منزه عن التهمة التي اتهمته بها امرأته زورًا وبُهتانًا.

شُيُوعُ الخَبرِ في المدينةِ وتَحدثُ النساء به

شَاع خَبَرُ امرأة العزيز ويوسف عليه السلام في أرجاء المدينة وأخذت ألسنة النساء من نساء الأمراء وبنات الكُبراء في الطعن على امرأة العزيز وعَيبها، والتشنيع عليها على فعلتها، كيف تعشق سيدة ذات جاه ومنصب فتاها وتراوده عن نفسه فتطلب منه مواقعتها، وبلغ ذلك امرأة العزيز فأرسلت إلى هؤلاء اللائمات من ذوات الثراء والجَاه ودَبّرت لهنَّ مكيدةً حتى يَعذرنها في حبّها وغرامِها ليوسف عليه الصلاة والسلام فَجمعتهُنَّ في منزلها وأَعدّت لهنَّ ضيافةً تليقُ بحالهنَّ، فقد هيأت لهن مكانًا أنيقًا فيه من النّمارق والوسائد ما يَتّكِئنَ عليه، وقَدمت إليهنَّ طَعَامًا يحتاج إلى القطع بالسكين، وقيل: ناولت كل واحدة منهنَّ أُترُجَّة ـ والأترجّ نوع من الفاكهة ـ وسكينًا وقالت لهن: لا تقطعن ولا تأكلن حتى أُعلمكن، ثم قالت ليوسف عليه السلام: اخرج عليهنَّ، فلما خرج عليه السلام إلى مكان جلوس هؤلاء النسوة ورأينه بَهَرَهُنَّ جمالُه وألهاهُن حُسنه الفائق وتَشَاغلن عمَّا في أيديهن فصرن يَحزُزْنَ أيديهن ويقطّعنها وهن يَحسبنَ أنهن يقطّعن الطعامَ والفاكهة،

وهنَّ لا يَشعرنَ بألمِ الجُرح، وأَعلنَّ إكبارهن وإعظامَهن لذلك الجمال الرائع الذي كان عليه سيدُنا يوسف عليه الصلاة والسلام، حيث ما ظننَّ أن يكونَ مثلُ هذا الجمال في بني ءادم. ثم قُلْن: حَاشَ لله ما هذا بَشَرًا إن هذا إلا مَلَك كريم، عند ذلك بَاحَت امرأةُ العزيز بحبها وشَغفها بيوسفَ عليه السلام الذي بهرها جمالُه وملَكَ عليها قلبها، وقالت للنسوة معتذرة في عشقها يوسف وحبها إيّاه: فذلكنَّ الذي لُمتنني فيه، ثم مَدَحَت يوسف عليه السلام بالعفة التَامّة والصيانة، واعترفت وأقرت لهنّ بأنها هي التي راودته عن نفسه وطلبت منه ما تُريد ولكنه استعصم وامتنع، وأخبرتهنَّ أنه إن لم يُطَاوعها إلى ما تُريدُ من قضاء شهوتها ليُحبسنّ في السجن ويكون فيه ذليلا صاغرًا.

قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَءاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)} [سورة يوسف].

وقامت النساء يحرضن يوسف عليه السلام على السمع والطاعة لسيدته ولكنه عليه السلام أبى أشد الإباء ودعا ربه مستغيثا به فقال في دعائه:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} [سورة يوسف]،

يعني إن وكلتني إلى نفسي فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف ولا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاءَ الله فأنا ضعيف إلا ما قويتني وعَصَمتني وحَفظتني وأحطتني بحولك وقوتك. فاستجابَ اللهُ تعالى دعوةَ نبيه يوسف عليه السلام وصَرَف عنه كيدهن ونجّاه من ارتكاب المعصية معهن قال الله تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} [سورة يوسف].

< Previous Post

المؤمِنُ مِرءَاةُ أَخِيهِ المؤمِن

Next Post >

حكم ردة الصبي