معجزة المعراج

الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طَيّبًا مُبارَكًا فيه، الحمدُ للهِ الذي بعثَ الأنبياءَ رحمةً للعالمينَ وتفَضَّلَ على عبادِه بإظهارِ المعجِزاتِ على أيْدِي أنبيائِه لِيُؤمِنوا بهم، فمَن شاءَ اللهُ له الهدى اهتَدى ومَن شاءَ أَضَلَّ، وصلَّى اللهُ على سيدِنا محمَّدٍ سَيّدِ الخلقِ وأشرَفِ الوَرَى مَن شَرَّفَه الله بالمِعراجِ في السموات وما شاءَ الله مِن العُلا، مَنْ بَعَثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ بالحقّ بَشيرًا ونذيرًا فدعا إلى الهدَى والخيرِ والرّشادِ ونهَى عن الشّرِ والفِتَنِ والفَسادِ، بلّغَ الرّسالةَ وأدّى الأمانَةَ وَنَصَحَ الأُمّةَ فجزاهُ اللهُ عنّا خيرَ ما جَزَى نبيًّا من أنبيائِهِ. وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ الواحدُ الصمدُ الذي لم يَكُن له في الخَلقِ كُفُوًا أحد، وأشهدُ أن سيّدنا محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه وصَفِيُّهُ وحَبِيبُهُ، صلواتُ ربي وسلامُهُ عليه وعلى ءالِه وصحابتِه الطيّبين.

أما بعدُ عبادَ الله فإنّي أوصيكم ونفسيَ بتقوى اللهِ العليِّ القديرِ الفعّالِ لما يُريد وهو على كلِّ شىءٍ قديرٌ. وكنّا قد تكلّمْنا في الجمُعةِ الماضيةِ عنِ الإسراءِ وبعضِ ما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مَسراهُ إلى بيتِ المقدس، وذكرنا لكم أنَّ الإسراء جاءَ النصُّ عليه في القرءانِ الكريم صريحًا فَمَن أنْكَرَهُ فقد كذَّبَ القرءان، وأمّا المعراجُ فلمْ يَنُصَّ عليهِ القرءانُ نصًّا صريحًا لكن وَرَدَ ما يَكادُ يكونُ نصًّا صريحًا حيث قال ربُّنا تبارك وتعالى ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)   [سورة النجم/11-14]، فقالَ علماءُ الإسلامِ مَن أنكرَ المعراجَ جاهِلًا بِوُرودِه في الشرعِ لا يكفُرُ بل يُفَسَّقُ لأنَّ القرءانَ لم يَنُصَّ عليهِ نصًّا صريحًا بخلافِ الإسراءِ، أمّا مُنكِرُ المعراجِ بقَصدِ أنْ يُعَاندَ الدّينَ فليسَ من المسلمينَ، حَفِظَنَا اللهُ وإيّاكُمْ مِنَ الوُقوعِ فيما يخالِفُ شرعَ اللهِ وأحكامَهُ.

بعد أن صلّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياءِ إمامًا في بيتِ المقدس عُرِجَ به إلى السماءِ فاستفتحَ جبريلُ، فقيل مَن أنتَ، قال جبريلُ، قيل ومَن معَكَ، قال محمّدٌ، قيلَ وقد بُعِثَ إليه (أي وقد بُعِثَ إليه لِيَعرُجَ إلى السماء، وإلا فإنَّ الملائكةَ تَعْلَمُ أنه كان قد بُعِثَ نبيًّا في ذلك الوقت) فقالَ جبريلُ قد بُعِثَ إليه. يقولُ عليه الصلاة والسلام فَفُتِحَ لنا فإذا أنا بآدَمَ فرَحَّبَ بي ودعَا لي بخيرٍ ثم عُرِجَ بنا إلى السماءِ الثانية فاستفتَحَ جبريلُ فقيلَ مَن أنتَ قال جبريلُ قيلَ ومَن معكَ قال محمَّدٌ قيلَ وقد بُعِثَ إليه قالَ وقد بُعِثَ إليه ففُتِحَ لنا فإذا أنا بابْنَيِ الخالَةِ عيسى ابنِ مريم ويحيى بنِ زكريّاءَ فرحَّبا ودَعَوَا لي بخير اهـ وهكذا ظلَّ نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم ينتقلُ من سماءٍ الى سماءٍ فالتقى في السماءِ الثالثةِ بسيدِنا يوسُفَ عليه السلام وقد أُعطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ أما في السماءِ الرابعة فقد التقى بإدريسَ وكان كلٌ منهم يدعو له بالخير ثم في الخامسةِ التقى بهارون والتقى بموسى في السادسةِ وفي السماءِ السابعة التقى بإبراهيمَ عليه السلام مُسنِدًا ظهرَه إلى البيتِ المعمورِ وإذا هو يدخُلُهُ كلَّ يومٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ لا يعودُون اليه. وبعدَ ذلك ذهبَ سيدُنا جبريلُ بالنبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى سِدْرَةِ الـمُنتهى وإذا وَرَقُها كآذانِ الفِيَلَةِ وإذا ثمرُها كالقِلالِ، قال عليه الصلاةُ والسلام فلما غَشِيَها مِنْ أمْرِ اللهِ ما غَشِيَ تغيَّرتْ فما أحدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَستطيعُ أنْ يَنْعَتَها مِنْ حُسْنِها فأَوْحَى اللهُ إليَّ ما أَوْحَى، ففَرَضَ عَلَيَّ خمسينَ صلاةً في كلِّ يومٍ وليلة فَنَزَلْتُ إلى موسى فقال ما فَرَضَ ربُّك على أمَّتِكَ، قلتُ خمسينَ صلاةً قالَ ارْجِعْ إلى ربِّك فاسْأَلْهُ التخفيفَ فإنَّ أمَّتَكَ لا يُطيقُونَ ذلك فإني قد بَلَوْتُ بني إسرائيلَ وخَبِرْتُهُمْ فرجعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المكانِ السابق وسألَ اللهَ التخفيفَ وقال يا ربّ خَفِّفْ على أُمتي، قال فحَطَّ عَنّي خَمْسًا فَرَجَعْتٌ إلى موسى فقلتُ حَطَّ عني خمسًا قال إنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذلك فاسأَلْ ربَّكَ التخفيفَ فلم يزَلِ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يُراجِعُ ربَّهُ حتى أُوحِىَ إليه بفَرضِ خمسِ صلواتٍ كلَّ يومٍ وليلَةٍ كلُّ صلاةٍ كأنها عَشْرٌ فذلك خمسون صلاة، وأوحى الله إليه أنَّ مَنْ هَمَّ بحَسَنَةٍ فلم يعمَلْها كُتِبَتْ له حسنةً فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ له عَشْرًا، ومَنْ هَمَّ بِسَيّئةٍ فلم يَعمَلْها لم تُكْتَبْ شيئًا فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ سَيّئَةً واحِدَةً اهـ فالحمدُ لله على فضلِهِ.

عِبادَ الله، إنَّ المقصودَ منَ المعراج تشريفُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بإطْلاعِهِ على عجائبِ العالَمِ العُلْوِيّ وتعظيمُ مكانَتِهِ، وليس الأمرُ كما يَدَّعي بعضُ الذين لا فِقْهَ لهم أنَّ المقصودَ مِنَ المعراج هو وصولُ النبيّ إلى مكانٍ ينتهي فيه وجودُ الله عزَّ وجلّ، فالنبيُّ لم يجتَمِعْ باللهِ كما يجتمعُ المخلوقُ بالمخلوق، فاللهُ مُنَزَّهٌ عنِ المكانِ والجهةِ والحيّزِ لأنه تعالى ليس جسمًا فهو تبارك وتعالى لا يُشْبِهُ شيئًا مِن خَلْقِه كما قال عَزَّ مِنْ قائلٍ ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ فلا يجوزُ الالتفاتُ إلى ما هو مذكورٌ في بعضِ الكتب مما هو كذبٌ مِنْ أنَّ الله دنا مِن محمَّدٍ حتى صارَ منه قَدْرَ ذراعٍ أو أقرب، فإنَّ هذا كفرٌ وضلالٌ ولا يصح حمل الآية ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى على أنَّ المرادَ اللهُ، وإنما المرادُ هنا جبريلُ كما قالتْ عائشةُ رضي الله عنها عندما سُئلت عن قولِه تعالى ﴿وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى   إنما هو جبريل اهـ أي دنا جبريلُ من مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قدرَ ذراعينِ بل أقربَ، شوقًا إليه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوزُ وصفُ اللهِ تعالى بالقُربِ بالمسافة، فإنَّ ذلك من صفاتِ الأحجامِ التي تشغَلُ الأماكِنَ وتَتَحَيَّزُ في الجهات، واللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الأماكنِ والجهات بإجماع المسلمين، كما قال الإمام أبو منصورٍ البغداديّ وأجمعوا على أنه تعالى لا يَحْويهِ مكانٌ اهـ فإنَّ اللهَ تبارك وتعالى كان موجودًا في الأزَلِ قبلَ خلقِ الأماكِنِ والجِهاتِ بلا جِهَةٍ ولا مكانٍ وهو سبحانَه وتعالى على ما كان، بلا جهةٍ ولا مكانٍ. عصَمَنا اللهُ مِن زَيغِ الاعتقادِ وثبَّتَنا على عقيدةِ الأنبياء.

هذا بعضُ ما وردَ في ذكرى الإسراءِ والمعراج عَلَّها تكون بُشرى خيرٍ ومُنْطَلقًا إلى مزيدٍ من التمسُّكِ بالشريعةِ والتخلِّي عنِ الأهواء وَلْتَكُن هذه الذكرى محطَّةَ تأمُّلٍ واعتبارٍ لاستخلاصِ الحكمة.

هذا وأستغفر الله لي ولكم.

< Previous Post

معجزة الإسراء- خطبة الجمعة

Next Post >

خطبة الجمعة | الملائكة عباد الله المكرمون

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map