الفتوى بغيرِ علم
الحمدُ لله والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله
من معاصي اللسانِ التي هي منَ الكبائر أنْ يُفتِيَ الشَّخصُ بفَتْوى بغَيرِ عِلْم قال الله تعالى ﴿ولا تَقفُ ما ليسَ لكَ به عِلْمٌ إنَّ السَّمعَ والبصرَ والفؤادَ كُلُّ أولئكَ كانَ عنه مسؤولاً﴾ سورة الإسراء36. أي لا تقُلْ قولاً بغير عِلم، وصحَّ وثبَتَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه سُئلَ عن بعضِ الأشياءِ فقال ((لا أدري)) ثم سألَ جبريلَ فقال ((لا أدري أسألُ ربَّ العزة)) فسألَ الله تعالى فعلَّمَهُ جوابَ ذلك السؤال ثم جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له ماذا علَّمَهُ ربُّه، وهذا السؤالُ كان عن خيرِ البقاعِ وشرِّ البقاعِ وفي لفظٍ عن خيرِ البلادِ وشرِّها، فقال جبريلُ عليه السلام: ((خيرُ البلادِ المساجد)) وفي لفظٍ: ((خيرُ البقاعِ المساجد وشرُّ البقاعِ الأسواق)) رواهُ مسلم وابنُ حِبَّان.
وروى الحافظ ابن عساكر في تاريخِه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أَفتى بغَيرِ عِلمٍ لَعَنَتْهُ مَلائكةُ السّماءِ والأرض))، وروى أحمدُ عن الشّافعيّ عن مالك عن محمدِ بنِ عَجْلانَ رضي الله عنه أنه قال: ((إذا أَغْفَلَ العَالِمُ لا أَدْرِي فَقَد أُصِيبَتْ مَقاتِلُه)) أي هلَكَ، وقالَ بعضُ الصحابةِ: ((أجرؤكُم على الفَتوَى أجرَؤكُم على النار)) وقال عبدُ اللهِ بنُ عمر رضي الله عنهُما: ((العِلمُ ثَلاثةٌ: كتابٌ نَاطِقٌ، وسُنَّةٌ مُحكَمَةٌ، ولا أدرِي)).
وقال بعضُ العلَماء لا أَدري نِصفُ العِلم، ومعناه أمر مهم.
فمَن أَفتى فإنْ كان مجتَهدًا أفتى على حسَبِ اجتِهادِه وإنْ لم يكنْ مجتهدًا فليسَ لهُ أنْ يُفتِيَ إلا اعتمادًا على فتوى إمامٍ مجتهدٍ، أي على نصٍّ له أو وجه استخرَجَه أصحَابُ مَذهَبِه مِنْ نَصّ لهُ، ويجوز أن ينقُلَ فتوى مذهبٍ غيرِ مذهبِ المسئولِ السائل، فإن نقَلَ من نُسخةٍ كتابٍ يُشترطُ أن تكونَ النسخةُ موثوقًا بصحَّتِها أو رأى لفظَها مُنتَظِمًا وهو خبيرٌ فَطِنٌ يُدرِكُ السَّقَطَ والتّحريفَ، فإن لم يحصُل ذلكَ قالَ للسّائِلِ وجَدْتُ كذا في نُسخَةٍ مِن كتابِ كذَا بلا جَزْمٍ بنِسبَتِهِ للمؤلف، فمَن سُئِلَ عن مَسأَلةٍ ولم يكن عندَه عِلمٌ بحُكمِها فلا يُغفِلْ كلِمَةَ “لا أَدْري”، فقد جاءَ عن مالكٍ رضيَ الله عنه أنّه سُئِل ثمانيةً وأربَعينَ سؤالاً فأجابَ عن سِتّةَ عَشرَ وقالَ عن البقيّةِ «لا أَدرِي» اﻫ، روى ذلك صاحبُه هَيثمُ بنُ جميل.
قال ابنُ الصّلاح ورَوينا عن أبي بَكرٍ الأثرَم قال سمعتُ أحمدَ بنَ حَنبل يُستَفتى فيُكثِرُ أن يقولَ لا أَدري، وذلكَ مِن أَعرَفِ الأقاويلِ فيه،وبلَغَنا عن الهيثم ابنِ جمِيل قال شهِدتُ مالكَ بنَ أنسٍ سئل عن ثمانٍ وأَربعِينَ مسئَلة فقال في اثنتَين وثلاثينَ منها لا أدري. وعن مالِكٍ أيضًا أنه ربما كانَ يُسألُ عن خمسِينَ مَسئلة فلا يُجِيبُ في واحِدةٍ منها، وكان يقولُ مَن أجَابَ في مَسئلةٍ فيَنبَغي مِن قَبل أن يُجِيب فيها أن يَعرِضَ نَفسَه على الجنّة والنار، وكيفَ يَكونُ خَلاصُه في الآخِرة ثم يجِيبُ فيها.
وقالَ ابنُ الصّلاح قال مالِكٌ إذا كانَ أصحَابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تَصعُبُ عليهِمُ المسائلُ ولا يُجِيبُ أحدٌ منهُم في مسئلةٍ حتى يأخذَ رَأي صاحبِه مع ما رُزِقوا منَ السَّداد والتوفيقِ معَ الطّهارة فكيفَ بنا الذينَ غَطّت الخطايا والذنوبُ قلوبَنا.
قالَ ابنُ الصّلاح ورَوينا عن عبد الرحمن بنِ أبي ليلى أنه قال أَدرَكتُ عِشرينَ ومائةً مِنَ الأنصار مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدُهم عن المسئلةِ فيرُدُّها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى تَرجِعَ إلى الأول.
وفي روايةٍ ما منهُم مِن أحدٍ يحدّثُ بحديثٍ إلا وَدَّ أنّ أخَاه كفَاهُ الفُتيا.
وقال ابنُ الصّلاح ورَوينا عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه أنه قال: مَن أَفتى الناسَ في كُلّ ما يَستَفتُونَهُ فهو مجنونٌ. وعن ابن عباس رضي الله عنهما نحوُه.
قال ابنُ الصّلاح وعن مالكٍ أنه سئل في مسئلةٍ فقال لا أدري فقيلَ لهُ إنها مسئلةٌ خفيفةٌ سهلةٌ فغَضِبَ وقالَ ليسَ في العِلْمِ شَىءٌ خفِيفٌ أما سمعتَ قولَه جلّ ثناؤه: {إنا سنُلقِي عليكَ قَولا ثَقِيلا} فالعِلمُ كلُّه ثقِيلٌ وبخاصّة ما يُسأل عنهُ يومَ القيامة.
ورُوي عن سيّدِنا عليٍّ أنه سئلَ عن شَىءٍ فقالَ: ((وا بَرْدَها على الكَبِد أَن أُسألَ عن شَىءٍ لا عِلمَ ليْ بهِ فأَقولَ لا أَدرِي)) ا.ﻫ رواه الحافظ العسقلانِيُّ في تخريجه على مختصر ابنِ الحاجِب الأصليّ. فإذا كانَ هذا حَالُ أعلَمِ الصحابةِ عليٍّ رضي الله عنه الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته حين زوّجَها إياه “زَوّجتُكِ بأَعْلَمِ أُمَّتي بِسُنَّتي“أي بشريعتي، وليس في القضاء فقط،
وقال سيّدُنا عمر فيه: ((نَعُوذُ باللهِ مِن مُعضِلَةٍ لَيسَ لها أبو الحسَن)) فكيفَ حالُ مَن سِواه.
فينبغي لطالبِ العلمِ أن يُعوّدَ نفسَهُ “لا أدري” وأن يلتزِمَ بالمنقولِ الْمُحرَّرِ وإلا أهلَكَ نفسَهُ وغيرَه.
فائدة: لو سُئِلَ شخصٌ عن ألفِ مسئلةٍ فأجابَ إجابةً صحيحةً عن تِسعِمائةٍ وتسعةٍ وتسعينَ وأَخطَأ في واحِدَةٍ منَ الألفِ وسُئِلَ ءاخرُ عن الألفِ مسئلةٍ فأجَابَ عن مائةٍ على الصّواب ولم يُجِب عن التِّسعِمائةِ فهذا أَفضلُ مِنَ الأوَّل في هذا الأمر.