إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستغفرُه ونستعينُه ونستهديْه ونشكرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفُسِنا ومِنْ سيّئاتِ أعمالِنا، منْ يَهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ولا مَثيلَ ولا شبيهَ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ له. وأشهدُ أنّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرّةَ أعيُنِنَا محمّدًا عبدُهُ ورسولُه وصفيُّهُ وحبيبُه مَنْ بَعثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ هادِيًا ومُبشِّرًا ونذيرًا بلّغَ الرِّسالةَ وأَدَّى الأمانةَ ونَصَحَ الأُمَّةَ فجزاهُ اللهُ عنَّا خيرَ ما جزَى نبيًّا مِن أنبيائِه.

أما بعدُ فيا عبادَ الله أوصيكُم ونفسي بتقوى اللهِ العليِّ العظيم. فقد روى مسلم في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: « جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، فَنَزَلَتْ ﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

إخوةَ الإيمان، إنَّ مِنْ أصولِ عقائدِ المسلمينَ الإيمانَ بقَدَرِ اللهِ سبحانه وتعالى، فقد روى مسلم في الصحيح عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: « أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: كُلُّ شَىْءٍ بِقَدَرٍ». قَالَ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « كُلُّ شَىْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ ».

وروى مسلمٌ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ: « أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ».

فكلُّ ما دخلَ في الوجودِ أيُّها الأحبةُ وُجِدَ بمشيئةِ اللهِ وعِلْمِه، فلا يَحدُثُ في العالمِ شىءٌ إلا بمشِيئتِهِ، ولا يُصيبُ العبدَ شىءٌ منَ الخيرِ أوِ الشرِّ أو الصِّحَّةِ أو المرَضِ أوِ الفَقْرِ أوِ الغِنى أو غيرِ ذلك إلا بمشيئةِ اللهِ تعالى، ولا يُخْطئُ العبدَ شَىءٌ قدَّرَ اللهُ وشاءَ أنْ يُصِيْبَهُ.وليس لقائلٍ أن يقولَ إنَّه إذا كانتِ المعصيةُ بمشيئةِ الله فكيفَ يُعذّبُه اللهُ، لأنَّ اللهَ لا يُسئَلُ عمَّا يَفعلُ، بلْ إِذَا عَذَّبَ اللهُ تَعَالى العَاصِيَ فَبِعَدْلِه مِنْ غَيْرِ ظُلْم، وَإِذَا أثَابَ الـمـُطِيعَ فَبِفَضْلِه مِنْ غَيرِ وجُوبٍ عليه، لأَنَّ الظُّلْمَ إنَّما يُتَصَوَّرُ مِـمَّن لهُ ءامِرٌ ونَاهٍ ولا ءامِرَ للهِ ولا نَاهيَ لَهُ، فَهُوَ يَتَصَرَّفُ في مِلْكِه كَما يَشَاءُ لأَنَّهُ خالِقُ الأشياءِ ومَالِكُها.

فقد روى أحمد، وأبو داود واللفظ له، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم، عن ابن الدَّيلميِّ، قال: أتيتُ أبيَّ بنَ كعب فقلتُ له: وقع في نفسِي شىءٌ من القَدَرِ، فحدّثْني بشىءٍ لعلَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أن يُذهِبَه من قلبي، قال: لو أنَّ اللهَ عذَّبَ أهلَ سماواتِه وأهلَ أرضه، عذبَهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رَحِمَهم، كانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقتَ مثلَ أُحُدٍ ذهبًا في سبيل الله ما قبلَه اللهُ منكَ حتى تؤمنَ بالقَدَر، وتعلَمَ أنَّ ما أصابَكَ لم يَكُنْ ليُخطئَكَ، وأنَّ ما أخْطاكَ لم يكُنْ ليُصيبكَ، ولو مِتَّ على غير هذا لدخلتَ النارَ.اهـ

قال: ثم أتيتُ عبدَ الله بن مسعود، فقال مثلَ ذلك، قال: ثم أتيتُ حذيفةَ بن اليمان، فقال مثلَ ذلك، قال: ثم أتيتُ زيدَ بن ثابت، فحدثني عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم مثلَ ذلك.اهـ

وليس معنى ذلك أنَّ اللهَ يرضَى بالشرِّ ولا أنَّه يأمُرُ بالمعصية، إنما الخيرُ من أعمالِ العبادِ بتقديرِ اللهِ ومحبَّتِه ورضاهُ، والشرُّ مِنْ أعمالِ العبادِ بتقديرِ الله لا بمحبَّته ورضاه.

قال الإمامُ أبو حنيفةَ رضي الله عنهُ الذي هو مِن أئمةِ السلفِ: « إنَّ الواجباتِ كلَّها التي يفعلُها العبدُ هى بأمرِ اللهِ تعالى ومحبتِه وبرضائِه وعِلْمِه ومشيئتِه وقضائِه وتقديرِه، والمعاصيَ كلَّها بعِلمِه وقضائِه وتقديره ومشيئته لا بمحبته ولا برضائه ولا بأمره».اهـ

ففَرْقٌ أيها الأحبةُ بين المشيئةِ وبين الأمرِ. وليس معنى هذا أيها الأحبةُ أنَّ العبدَ لا مشيئةَ له بالمرَّة،  كما قالتْ الجَبريَّة، وليس المعنى أن العبد له مشيئةٌ مستقلةٌ عن الله، ويفعلُ العبدُ ما يريدُ وإن كان اللهُ لا يريد، والعياذ بالله. كما قالت المعتزلة. بل العبد له مشيئةٌ تحت مشيئة الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.

فأعمال العبد التي  يعملها بإرادته، والتي تحصلُ منه بغير إرادته، كلُّ ذلك خلقُ الله تعالى، لا خالق إلا الله، والله خلقكم وما تعملون.وقد روى الإمام الشافعي والحافظ ابن عساكر  عن عبد الله بن جعفر، عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال للسائل عن القدر «سر الله فلا تتكلف»، فلما ألح عليه، قال له: «أمَّا إذ أبيت فإنه أمر بين أمرين لا جبرٌ ولا تفويضٌ» .اهـ

وكتب الحسن البصرى إلى الحسن بن علي – رضي الله عنهم – يسأله عن القضاء، والقدر فكتب إليه الحسن بن علي: «مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَقَدَرِهِ، خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ حَمَلَ ذَنْبَهُ عَلَى رَبِّهِ فَقَدْ فَجَرَ، وَإنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُطَاعُ اسْتِكْرَاهًا، وَلَا يُعْصَى بِغَلَبَةٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لِمَا مَلَّكَهُمْ، وَقَادِرٌ عَلَى مَا أَقْدَرَهُمْ، فَإِنْ عَمِلُوا بِالطَّاعَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا عَمِلُوا، وَإِنْ عَمِلُوا بِالْمَعْصِيَةِ فَلَوْ شَاءَ لَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا عَمِلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي جَبَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ جَبَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَى الطَّاعَةِ لَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الثَّوَابَ، وَلَوْ جَبَرَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الْعِقَابَ، وَلَوْ أَهْمَلَهُمْ كَانَ ذَلِكَ عَجْزًا فِي الْقُدْرَةِ، وَلَكِنْ لَهُ فِيهِمُ الْمَشِيئَةُ الَّتِي غَيَّبَهَا عَنْهُمْ، فَإِنْ عَمِلُوا بِالطَّاعَةِ فَلَهُ الْمِنَّةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ عَمِلُوا بِالْمَعْصِيَةِ فَلَهُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ».اهـ رواه ملا علي القاري في المرقاة والبياضي في إشارات المرام وغيرهما.

فالأمر أيها الأحبة كما قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة: «وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: 23]. فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى شَىءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَنَّهُ كَائِنٌ، لِيَجْعَلُوهُ غَيْرَ كَائِنٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى شَىْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، لِيَجْعَلُوهُ كَائِنًا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا مُبْرَمًا، لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ، وَلَا مُعَقِّبٌ وَلَا مُزِيلٌ وَلَا مُغَيِّرٌ وَلَا نَاقِصٌ وَلَا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وأرضه».اهـ

اللهمَّ احفَظْ لنا دينَنَا الذي هو عصمةُ أمرِنا، واهدِنَا وسَدِّدْنا واختِمْ لنا بالصالحاتِ أعمالَنا.            

هذا وأستغفرُ الله العظيم لي ولكم

< Previous Post

التَّوكُّلُ على اللهِ والتحذيرُ من الكَهَنَةِ والعرّافينَ

Next Post >

الوضوء

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map