مَائِدَةُ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.

كَانَ لِكُلٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ بِدِينِ الإِسْلامِ دِينِ الْحَقِّ، مُعْجِزَاتٌ عَدِيدَةٌ تَأْيِيدًا لَهُمْ وَتَصْدِيقًا لِنُبُوَّتِهِمْ.

وَكَانَ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا مُعْجِزَاتٍ عَظِيمَةً كَثِيرَةً مِنْهَا مُعْجِزَةُ نُزُولِ الْمَائِدَةِ.

وَكَانَ سَيِّدُنَا عِيسَى قَدْ أَمَرَ الْحَوَارِيِّينَ وَهُمْ خِيرَةُ مَنْ ءَامَنُوا بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِصِيَامِ ثَلاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا أَتَمُّوهَا كَانُوا مَعَهُ فِي صَحْرَاءَ، وَكَانَ سَيِّدُنَا عِيسَى إِذَا خَرَجَ تَبِعَهُ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ: بَعْضُهُمْ أَصْحَابُهُ، وَبَعْضُهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ لَهُمْ لِمَرَضٍ بِهِمْ أَوْ عِلَّةٍ، إِذْ كَانُوا أَصْحَابَ عَاهَاتٍ وَإِعَاقَاتٍ، وَالْبَعْضُ الآخَرُ يَتْبَعُونَهُ لِلاِسْتِهْزَاءِ وَالتَّشْوِيشِ.

سَأَلَ الْحَوَارِيُّونَ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ إِنْزَالَ مَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ تَقَبَّلَ صِيَامَهُمْ، وَتَكُونَ لَهُمْ عِيدًا يُفْطِرُونَ عَلَيْهَا يَوْمَ فِطْرِهِمْ، وَطَلَبُوا أَنْ تَكُونَ كَافِيَةً لأِوَّلِهِمْ وَءَاخِرِهِمْ وَلِغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، وَلَكِنَّ سَيِّدَنَا عِيسَى وَعَظَهُمْ فِي ذَلِكَ وَخَافَ أَلاَّ يَقُومُوا بِشُكْرِ اللَّهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، وَهُمْ قَدْ رَأَوِا الْكَثِيرَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَلِمَاذَا يَطْلُبُونَ الْمَزِيدَ؟

وَكَانَ الْجَوَابُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الأَكْلَ مِنْهَا لِلتَّبَرُّكِ. وَلَمَّا أَلَحُّوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قَامَ إِلَى حَيْثُ كَانَ يُصَلِّي وَلَبِسَ ثِيَابًا مِنْ شَعَرٍ وَأَطْرَقَ رَأْسَهُ وَبَكَى خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَخَذَ يَتَضَرَّعُ وَيَدْعُو بِأَنْ يُجَابُوا إِلَى مَا طَلَبُوا، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دُعَاءَهُ، وَنَزَلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ، غَمَامَةٌ فَوْقَهَا وَأُخْرَى تَحْتَهَا، وَحَوْلَهَا الْمَلائِكَةُ، وَصَارَتْ تَدْنُو شَيْئًا فَشَيْئًا، وَكُلَّمَا اقْتَرَبَتْ مِنْهُمْ سَأَلَ عِيسَى الْمَسِيحُ رَبَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا رَحْمَةً لا نِقْمَةً وَأَنْ يَجْعَلَهَا سَلامًا وَبَرَكَةً، فَلَمْ تَزَلْ تَدْنُو حَتَّى اسْتَقَرَّتْ بَيْنَ يَدَيْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَهِيَ مُغَطَّاةٌ بِمِنْدِيلٍ، فَقَامَ يَكْشِفُ عَنْهَا وَهُوَ يَقُولُ: “بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الرَّازِقِينَ” وَإِذَا عَلَيْهَا مِنَ الطَّعَامِ سَبْعُ أَسْمَاكٍ كَبِيرَةٍ وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ وَخَلٌّ وَمِلْحٌ وَرُمَّانٌ وَعَسَلٌ وَثِمَارٌ وَهُمْ يَجِدُونَ لَهَا رَائِحَةً طَيِّبَةً جِدًّا لَمْ يَكُونُوا يَجِدُونَ مِثْلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ.

بَلَغَ الْخَبَرُ الْيَهُودَ فَجَاءُوا غَمًّا وَكَمَدًا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَرَأَوْا عَجَبًا، ثُمَّ أَمَرَ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ الْحَوَارِيِّينَ بِالأَكْلِ مِنْهَا، فَقَالُوا لَهُ: لا نَأْكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ، فَقَالَ عِيسَى: إِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْهَا مَنْ طَلَبَهَا وَسَأَلَهَا، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَبْدَأُوا بِالأَكْلِ مِنْهَا أَمَرَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمَرْضَى وَأَصْحَابَ الْعَاهَاتِ وَالْمُقْعَدِينَ وَالْعُمْيَان وَكَانُوا قَرِيبًا مِنَ الأَلْفِ وَثَلاثِمَائَةٍ أَنْ يَأْكُلُوا فَأَطَاعُوا، فَأَكَلُوا مِنْهَا وَحَصَلَتْ بَرَكَاتُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْعَظِيمَةِ إِذْ شُفِيَ كُلُّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ أَوْ ءَافَةٌ أَوْ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَصَارَ الْفُقَرَاءُ أَغْنِيَاءَ، فَنَدِمَ النَّاسُ الَّذِينَ لَمْ يَأْكُلُوا مِنْهَا لِمَا رَأَوْا مِنْ إِصْلاحِ حَالِ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَكَلُوا، وَلَمَّا تَزَاحَمَ النَّاسُ عَلَى الْمَائِدَةِ جَعَلَ سَيِّدُنَا عِيسَى دَوْرًا لِكُلٍّ مِنْهُمْ وَكَانَ يَأْكُلُ ءَاخِرُهُمْ كَمَا يَأْكُلُ أَوَّلُهُمْ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَةُ ءَالافِ شَخْصٍ.

وَلَمَّا تَمَّ أَرْبَعُونَ يَوْمًا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا عِيسَى اجْعَلْ مَائِدَتِي هَذِهِ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الأَغْنِيَاءِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ لا يَخُونُوا فَيَأْكُلُ مِنْهَا غَنِيٌّ وَأَنْ لا يَدَّخِرُوا وَلا يَرْفَعُوا مِنْ طَعَامِهَا وَيُخَبِئُوهُ لِغَدٍ، فَخَانَ مَنْ خَانَ وَادَّخَرَ مَنِ ادَّخَرَ، فَرُفِعَتِ الْمَائِدَةُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَتَكَلَّمَ مُنَافِقُوهُمْ فِي ذَلِكَ وَشَكَّكُوا النَّاسَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ اللَّهُ: “يَا عِيسَى إِنِّي ءَاخِذٌ بِشَرْطِي” أَيْ سَأُعَذِّبُ مَنْ كَفَرَ، فَلَمَّا قَامَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ نَوْمِهِمْ فِي الْيَوْمِ التَّالِي وَكَانُوا ثَلاثَةً وَثَلاثِينَ شَخْصًا، تَحَوَّلُوا إِلَى خَنَازِيرَ بَشِعَةٍ، وَصَارُوا يَأْكُلُونَ الأَوْسَاخَ مِنْ حُفَرِ الأَقْذَارِ، بَعْدَمَا كَانُوا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الطَّيِّبَ وَيَنَامُونَ عَلَى الْفِرَاشِ اللَّيِّنِ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَبْكُونَ، وَجَاءَ هَؤُلاءِ الْخَنَازِيرُ فَطَأْطَئُوا رُءُوسَهُمْ وَصَارُوا يَبْكُونَ وَتَجْرِي دُمُوعُهُمْ، فَعَرَفَهُمْ سَيِّدُنَا عِيسَى وَصَارَ يَقُولُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ: “أَلَسْتَ فُلانًا؟” فَيُومِئُ بِرَأْسِهِ وَلا يَسْتَطِيعُ الْكَلامَ، وَبَقوا كَذَلِكَ عِدَّةَ أَيَّامٍ ثُمَّ دَعَا سَيِّدُنَا عِيسَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَقْبِضَ أَرْوَاحَهُمْ، فَأَصْبَحُوا لا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبُوا، هَلِ الأَرْضُ ابْتَلَعَتْهُمْ، أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ؟

وَتَحَدَّثَ النَّاسُ عَنْ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْعَظِيمَةِ، فَآمَنَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَازْدَادَ الْمُؤْمِنُونَ يَقِينًا وَثَبَاتًا فِي إِيْمَانِهِمْ.

< Previous Post

سَيِّدُنَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَالأَرْغِفَةُ الثَّلاثَةُ

Next Post >

قِصَّةُ جُرَيْجٍ الَّذِي كَانَ مِنْ أُمَّةِ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map