إِنّ الحمدَ للهِ نَحمَدُهُ وَنَستعينُهُ ونستهديهِ ونشكُرُهُ وَنستغفِرُهُ ونتُوبُ إليهِ، ونَعُوذُ باللهِ مِن شُرورِ أَنْفُسِنا ومِنْ سَيِّئاتِ أَعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لهُ، وأَشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ولا شَبِيهَ ولا مِثْلَ ولا نِدَّ له، ولا حدَّ ولا جُثَّةَ ولا أعضاءَ لَهُ، أَحدٌ صَمدٌ، لم يلِد ولم يُولد ولم يكُن لهُ كفُوًا أحد، وَأشهدُ أنَّ سيِّدَنا وَحبيبَنا وَعَظِيمَنا وَقائِدَنا وَقُرّةَ أعيُنِنا محمدًا عَبدُهُ وَرسولُهُ وَصَفِيُّهُ وحبيبُهُ، مَنْ بَعَثهُ اللهُ رَحمةً للعالمين هادِيًا ومُبشِّرًا وَنَذِيرًا. اللهُمَّ صلّ وسلِّم عَلى سيدِنا محمَّدٍ الدّاعي إلى الخيرِ والرشاد، الذي سَنَّ للأُمَّةِ طريقَ الفلاح، وبَيَّنَ لها سُبُلَ النّجاح، وعلى ءاله وصَفْوَةِ الأصحاب.

أما بعدُ عبادَ الله فإني أوصيكم ونفسِيَ بتقوى اللهِ، فاتقوا اللهَ عبادَ الله بِاتِّباعِ شَرعِ نَبِيِّهِ، بالعَملِ بما جاءَ بِهِ صَلّى الله عليهِ وَسَلّم، وسارِعُوا فِي الطاعاتِ قبلَ انقضاءِ الأجَلِ لِنَيْلِ الحسناتِ لتَثْقُلَ مَوازِينُكُم يومَ القيامَة، فقد قال ربُّنا تبارك وتعالى﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ۝ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ۝ نَارٌ حَامِيَةٌ﴾.

وروى مسلم في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ ‌عَمَلُهُ ‌إِلَّا ‌مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ » ورواه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد في مسنده، وأبو داود والترمذي والنسائي في سننهم، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم.

وروى ابن ماجه وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا نَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ ‌مَسْجِدًا ‌بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، تلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ».

وروى البزار وغيره عَن أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «‌سَبْعٌ ‌يَجْرِي ‌لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وهُو فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ».

قال الحافظ الفقيه النووي في شرحه على صحيح مسلم :«قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ عَمَلَ الْمَيِّتِ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ وَيَنْقَطِعُ تَجَدُّدُ الْثوَابِ لَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبَهَا، فَإِنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي خَلَّفَهُ مِنْ تَعْلِيمٍ أَوْ تَصْنِيفٍ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ وَهِيَ الْوَقْفُ».اهـ

ومعنى قولِهِ صَلّى الله عليهِ وَسَلّم:” انْقَطَعَ عَمَلُهُ“، أَنَّ العَمَلَ التّكليفِيَّ الذي يتَرَتَّبُ عَليهِ الثّوابُ انقَطَعَ بِموْتِ ابنِ ءادَمَ، إلَّا مِنْ هذه الثلاثِ التي هي بِسَبَبِهِ.

فَمَنْ تَرَكَ عِلْمًا يُنتَفَعُ به يتجدَّدُ لهذا الميّتِ الثوابُ بِقَدْرِ الانتِفاع بهذا العِلمِ الذي خَلَّفَهُ بعدَ موتِه، لأَنَّه كانَ سببًا فِي هذا النَّفع.

وإنْ تَرَكَ صَدَقَةً جارِيةً كأَنْ بَنَى مَسْجِدًا أو مَدرسةً لِيُتَعلَّمَ فيها العُلومُ النافِعة أو نحو ذلك فإنَّه يتجدَّدُ لهذا الميتِ الثوابُ كُلَّما انتُفِعَ بِما فَعَلَهُ لِكَوْنِهِ بِسَبَبِه.

وإنْ دَعَا لَهُ وَلَدُهُ الصَّالِحُ بِدُعَاءٍ، أو بِإهْدَاءِ ثوابِ قِراءتِه للقُرءان ونحوِه، فإنّه يتجدَّدُ لهذا الميّتِ الثوابُ لَـمَّا كان صلاحُ ولَدِه بسببِ تأدِيبه له وتعليمِه لِيَكُونَ صالحًا.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: انقطع انتفاعه، ولم يقل: عملُ غيرِه لا ينفعه، ولم يقل: لا ينفع غيره، وإنما قال: انقطع عمله، أي التكليفي، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثوابُ عمل العامل، فالمنقطع شىء والواصل إليه شىء ءاخر.

لذلك شرع لنا الشارع أن نصلي على أمواتنا المسلمين صلاة الجنازة وأن نقرأ فيها الفاتحة وندعو لهم، وأخبرنا أننا إن سلّمنا عليهم في قبورهم فإنهم يسمعوننا ويردون علينا السلام، وأخبرنا أن الأنبياء ونحوهم ينفعون بعد وفاتهم بإذن الله تعالى، كما نَفَعَ سَيِّدُنا موسى عليه السلامُ أُمَّةَ محمدٍ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، بأنْ أَرْشَدَ سيِّدَنا محمدًا إلى سؤالِ اللهِ تخفيفَ الصلواتِ المفروضةِ مِنْ خمسينَ صلاة، حتى صارتْ خَمْسًا في كُلِّ يومٍ وليلةٍ.

وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كما قال الحافظ العراقي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «‌حَيَاتِي ‌خَيْرٌ ‌لَكُمْ تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا رَأَيْت مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا رَأَيْت مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ»

وليس فِي هذا الحديثِ: إذَا مَاتَ ابنُ ءادَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلاَثٍ، ما ادَّعتهُ بعضُ الفرق المنحرفة مِنْ أنَّ النبيَّ صَلّى الله عليهِ وَسَلّم قد ماتَ فلا عَمَلَ له بعدَ موتِه ولا يَنْفَعُ غيرَه، فلا يجوزُ التوسل به ولا الاستغاثة به ولا بغيره من الأنبياء والصالحين، بل زعموا أن هذا شركٌ وكفر وضلال يُـخرجُ من الإسلام، ومَن حصل منه ذلك حلّ قتله وإراقةُ دمه. نعوذ بالله من الغلو في التكفير.

فالصحيح ما علّمه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح: التوسل والاستغاثة بالصالحين سبب، والخالق هو الله تعالى، التوسل والاستغاثة بالصالحين وسيلة، ومجيب الدعوات هو الله تعالى. ولا أحدَ يغفر الذنوب إلا الله.

ويقال لهؤلاء الغلاة في التكفير: إذا مرض الواحد منا، ألا يذهب إلى الطبيب؟!، ألا يتناول الدواء؟! وهذا الدواء ركبه فلان، وصنع في بلد كذا؟!! معناه مع اعتقادنا الجازم أن الطبيب والدواء سبب مخلوق، ومَعَ يَقِيْنِنا بِأنَّ اللهَ هُوَ خالقُ النَّفْعِ والضُّرِّ والمرَضِ والشفاءِ، فكيف تكفرون من اتخذ الأنبياء أسبابا لنَيلِ حاجَتِه، وهم أفضل خلق الله.

أليسَ قالَ جبريلُ للسَّيِّدَةِ مـــريم:﴿ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾، فَوَاهِبُ الغُلَامِ – الذِي هُوَ عيسى عليه السلام- لِــمَرْيَمَ في الحقيقَةِ هـوَ الله، ولكنَّ اللهَ جَعَلَ جِبْرِيْلَ سَبَبًا، فَأَضَافَ جِبْرِيْلُ الهِبَةَ إلى نَفْسِهِ.

 وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ عَظِيْمُ شَطَطِ الذينَ يُكَفِّرُونَ المتَوَسِّلينَ والـمُسْتغيثينَ لِـمُجَرَّدِ قَوْلِ أَحَدِهِم يا رَسُولَ الله، ضَاقَتْ حِيْلَتِي، أَغِثْنِي يَا رسولَ الله، أو مَا شَابَهَ ذلكَ مِنَ العِبَارات، وَيَسْتَحِلُّونَ بذلكَ دِمَاءَ المسلمينَ وَأَمْوالَهُم لِيَنْشُرُوا الفِتْنَةَ في الأرضِ وَيَسْعَوا فيها بِالفساد.

واللهُ الـمُسْتَعَانُ على أَمْثَالِهم وهو نِعْمَ الـمَوْلَى ونِعْمَ النَّصِيْر….      هذا وأستَغْفِرُ اللهَ لي ولكم.

 

< Previous Post

خُطورةُ الانتِحَار- خطبة الجمعة

Next Post >

أفضل أيام الدنيا

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map