إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديْه ونشكرُه ونعوذُ بالله مِن شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِ اللهُ فلا مُضلّ لَه ومَن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ولا مثيلَ له، وأشهدُ أنّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرّةَ أعيُننا محمّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبه، صلّى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَه.

أما بعدُ عبادَ الله فإنّي أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ العليّ العظيم وبالاعتصامِ بحبلِ اللهِ المتينِ عملاً بقولِه تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (ءال عمران 103).

إخوةَ الإيمان، إنَّ الأمةَ المحمّديةَ اليومَ تنتظرُ بشوقٍ لِتشهدَ أبْهَى مظاهرِ الوَحدة، حيثُ يجتمعُ المسلمونَ بأشكالهمُ المختلفةِ وألسنتِهِمُ المتعدّدةِ تحتَ رايةِ التَّوحيدِ التي جمعتهُم فوقَ أرضٍ واحدةٍ يَدْعونَ ربًّا واحدًا.إنَّ موقفَ المسلمينَ على أرضِ عرفةَ قائلين:«لبّيكَ اللهمَّ لبّيك، لبّيكَ لا شريكَ لكَ لبّيك، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لكَ والمُلك، لا شريكَ لك» مَوقفٌ تنشدُّ له الأبصار، موقفٌ تحنُّ لهُ القُلوب، موقفٌ تذرِفُ له العيونُ بالدُّموعِ شوقًا لتلكَ البِقاع، شوقًا لأمِّ القُرى لمكّةَ ومِنى وعَرفة.

أيها المؤمنون: فقد روى البخاري في الصحيح عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا، مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الـمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3] قَالَ عُمَرُ: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالـمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ»

فيوم عرفة له فضائل متعددة:

منها: أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة.

ومنها: أنه عيد لأهل الإسلام كما قاله عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهم، قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْتُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَكِلَاهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ لَنَا عِيدٌ.اهـ أخرجه ابن جرير في تفسيره.

وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ. رواه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ومنها: أنه أفضل أيام العام، فقد روى ابن حبان في صحيحه من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَمَا مِنْ يوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يوْمِ عَرَفَةَ».اهـ

ومنها: أنه يوم المغفرة من الذنوب والتجاوز عنها والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف، فقد روى مسلم في الصحيح، قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ».

وأخرج مالك في الموطأ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ، مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ». قِيلَ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ». (أي يصف الملائكة للقتال).

 فمن طمع في العتق من النار ومغفرة ذنوبه في يوم عرفة فليحافظ على الأسباب التي يرجى بها العتق والمغفرة.

فمنها: صيام ذلك اليوم، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ ». وفي لفظ في مسلم ‏عن ‏أبي قتادة الأنصاري ‏‏رضي الله عنه قَالَ: وَسُئِلَ -أي رسول الله- عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ « يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ ».

وأما بالنسبة للحاج الواقف على عرفات فلا يصوم، فقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف مفطرا، وفي الحديث الذي رواه الحاكم وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبي: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ»، ورواه أبو داود وغيره.

‏ وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ بِعَرَفَةَ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الفَضْلِ بِلَبَنٍ فَشَرِبَ». رواه الترمذي  وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

ومنها: حفظ جوارحه عن المحرمات في ذلك اليوم.ففي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن يوم عرفة:‏ «إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ، وَبَصَرَهُ، وَلِسَانَهُ، غُفِرَ لَهُ».

ومنها: الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص وصدق فإنها أصل دين الإسلام الذي أكمله الله تعالى في ذلك اليوم وأساسه.

فقد روى الترمذي وغيره أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ».

 وفي موطإ مالك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ».

ومنها: كثرة الدعاء بالمغفرة والعتق فإنه يرجى إجابة الدعاء فيه، فأكثر في يوم عرفة أن تقول: اللهم أعتق رقبتي من النار وأوسع لي من الرزق الحلال واصرف عني فسقة الجن والإنس.

واحذر من أنواع الكبائر: كالاختيال: فقد قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾. والمختال هو المتعاظم في نفسه المتكبر.ومن كرمت عليه نفسه هان عليه كل ما يبذل في افتكاكها من النار.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمٌ عَظِيمُ الْفَضْلِ، جَلِيلُ الْقَدْرِ، فِيهِ أَتَمَّ اللَّهُ تَعَالَى النِّعْمَةَ، وَأَكْمَلَ الدِّينَ، فَأَكْثِرُوا فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَذِكْرِ اللَّهِ، وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِصَادِقِ الرَّجَاءِ.

وكم هو عظيم العمل بما رواه الحاكم في مستدركه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخو الـمُسْلِمِ، الْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَلَا تَظْلِمُوا، وَلَا تَرْجِعُوا مِنْ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» .

إخوة الإيمان والإسلام:

وأما اجتماع الناس في المساجد عصر يوم عرفة للدعاء والذكر، تشبها بالواقفين على عرفات، يقال له التَّعْرِيف بغيرِ عَرَفَات، اختلف العلماءُ فيه، فجاءَ عن جَمَاعَةٍ اسْتحبَابُهُ وَفِعْلُهُ. فَقَد رُوِي عن الحسنِ البصريِّ أنهُ قَال: أوَّلُ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عَباس رضي الله عنهما. وَقَالَ الأَثْرَمُ: سَألْتُ أحْمَدَ بن حَنْبَلٍ رحمهُ اللهُ تَعَالى عَنِ التَّعْرِيف فِي الأمْصَارِ فقالَ: أرْجُو أنْ لا يكونَ به بأسٌ، وقد فعلهُ غيرُ واحدٍ الْحَسَنُ وبكرٌ وثابِتٌ ومحمدُ بنُ واسع كانوا يشْهَدُونَ المسجدَ يومَ عرفةَ.

اللهمّ أصلِحْ ذاتَ بينِنا وألّفْ بينَ قلوبِنا ووحّدْ صفوفَنا واجمعْ شملَنا وارفعْ رايتَنا إنكَ على كلِّ شىءٍ قدير.

هذا وأستغفرُ الله العظيم لي ولكم

< Previous Post

خطبة الجمعة | فضل العشر الأول من ذي الحجة

Next Post >

الصمت وحفظ اللسان- خطبة الجمعة

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map