خطبة الجمعة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا شبيه ولا مثيل له، مهما تصورت ببالك فالله لا يشبه ذلك، ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقائدنا وقرة أعيننا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه وحبيبه وخليله أرسله الله بالهدى ودين الحق هاديًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فهدى الله به الأمة وكشف به الغمة وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور فجزاه الله خير ما جزى نبيًا عن أمته.

اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد عباد الله فأوصي نفسي وإيّاكم بتقوى الله العظيم فاتقوا الله ربكم واذكروا قوله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281)﴾ سورة البقرة.

أما بعد،

فقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا (59)﴾ سورة الإسراء.

معشر الإخوة:

إن ما جرى فيه تخويفٌ من الله تعالى لعباده وقد جاء في الدر المنثور للحافظ السيوطي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا (59)﴾ عن قَتادة قال: «إن الله يُخوِّف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبرون أو يذكرون أو يرجعون»  فاخشوا ربكم أيها الناس فما زالت علامات تخويف الله تعالى لنا تظهر وتتوالى شيئًا بعد شىء لا سيما الخسوف والبراكين والتسونامي والزلازل والهزات ومع ذلك فإنّ ما يصرفه الله تعالى عنَّا أكبر مما نُبتلى به، ومصداق هذا في قول الله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَىْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)﴾. فقوله تعالى {بِشَىْءٍ} معناه بقليل من كل واحدةٍ من هذه البلايا وطرَفٍ منها. إذًا ما يصرفه الله عنَّا أكبر، فلو شاء الله لخسف بنا الأرض ولو شاء تعالى لأسقط علينا من السماء كِسَفًا [أي قطعا] ولو شاء سبحانه لأطبق علينا الجبال ولو شاء لطغى علينا البحر، فالله فعَّالٌ لما يريد وهو قادرٌ على ما يشاء فاتقوا الله أيها الناس وقولوا: اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تُهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك.

إخوة الإيمان،

روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين زينب بنت جحشٍ رضي الله عنها أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فَزِعًا مُحمرًّا وجهه يقول «لا إلٰه إلا الله ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب فُتِحَ اليومَ من رَدمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها قالت: فقلت أَنَهلِك وفينا الصَّالحون؟ قال نعم إذا كثُر الخَبث» وأفاد قوله ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب أنه سيصيب العرب فتنٌ وقلاقل فنسأل الله السلامة في ديننا ودنيانا. قال ابن بطَّال في شرح صحيح البخاري: قال المهلب: «ظهور الزلازل والآيات أيضًا وعيدٌ من الله تعالى لأهل الأرض قال تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا (59)﴾ وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في الرعد «إنه وعيدٌ شديدٌ لأهل الأرض» والوعيد بهذه الآيات إنما يكون عند المجاهرة بالمعاصي والإعلان بها».

وقد وقعت هزةٌ في زمن سيدنا عمر رضي الله عنه في المدينة فقال: «يا أهل المدينة ما أسرع ما أحدثتم والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم»، يعني خشي أن يُصيبه شىءٌ من العقوبة العامة التي تنزل بسبب ذنوب الناس، فقد قال الله تعالى في سورة الأنفال: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)﴾ فالفتنة إذا عمَّت هلك الكل إلا أن البلاء عندئذٍ طهارةٌ للمؤمنين ونقمةٌ على الفاسقين.  

وفي هذا المقام جديرٌ بكل واحدٍ منا أن يسأل نفسه:

ماذا قدمت في دنياي لآخرتي وكيف تمضي بعمري الأيام والليالي؟

وكم أسرفت على نفسي وسوّفت في التوبة؟

هلَّا تفكرتُ وتدبَّرت في أمري لا سيما وقد لاحت علامات تقتضي منَّا أن نُراجع أنفسنا ونحملها على الاستقامة؟ فها نحن نعيش شدةً بعد شدةٍ.  مرضٌ وغلاءٌ وحروبٌ وبلاءٌ وليست ببعيدةٍ عنا آثار الجائحة المرَضية  كورونا التي حبست العباد وأفقرت البلاد ونشرت الكساد وحصدت الأرواح حتى قطع الخوف الجوف. ومن ثمَّ زلزال ارتجت له الأرض منذ أيامٍ يسيرةٍ فاللهم عفوك ورحمتك

فيا أيها الأحبة،

من بقي حيًّا بعد اهتزاز الأرض من تحته فليتعظ بمن غمره الرُّكام وليُصلِح من نفسه، وانصحوا من يسب الله أو يستهزئ بدين الله أو يشتم نبيا من أنبياء الله والعياذ بالله أو ملكا من ملائكة الله كعزرائيل أو يرمي المصحف في القاذورات أن يرجع للإسلام بالشهادتين، أما من عصى الله بما هو دون ذلك فليبادر إلى التوبة والرجوعِ إلى طاعة الله تعالى بالندم والإقلاع عما وقع فيه والعزم على أن لا يرجع إلى ذلك الذنب، وإن كان عليه قضاء صلاة أو صيام فليبادر إلى قضاءه بلا تأخير، وإن كان ظلَم أخاه فليبادِر إلى استسماحه ورد الحق إليه، وبادر أخي لتعلم الضروري من علم الدين لتعلم ما فرض الله عليك.

إخوة الإيمان،

روى ابن أبي الدنيا في كتابه “العقوبات” عن جعفر بن بُرقان قال: «كتب إلينا عمر بن عبد العزيز أما بعد: فإن هذا الرَّجف شىءٌ يُعاقب الله تعالى به العباد وقد كتبت إلى الأمصار أن يخرجوا يوم كذا من شهر كذا فمن كان عنده شىءٌ فليَصَّدق قال الله عزَّ وجلَّ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)﴾ سورة الأعلى.

وقولوا كما قال أبوكم آدم ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)﴾ سورة الأعراف.

وقولوا كما قال نوحٌ عليه السلام ﴿وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ (47)﴾ سورة هود.

وقولوا كما قال يونس عليه السلام ﴿لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)﴾ سورة الأنبياء.   

 فطوبى لمن اعتبر بغيره قبل أن يكون عبرةً لغيره، ولم يكن من الذين قال الله تعالى فيهم في سورة الإسراء: ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)﴾، فالغافل يتمادى في غيِّه ولا يتَّعظ بآيةٍ ولا عبرةٍ فنسأل الله أن لا يجعلنا من الغافلين، فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه أنه قال: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مرَّ على أنفه» فالمؤمن الكامل على وجلٍ يخاف عاقبة الذنوب ويرجو فضل الله ورحمته فهو بين الرجاء والخوف، وأما الكافر فكأنه لا يرى ولا يسمع وهو كما قال الله تعالى في سورة الأعراف: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)﴾.

معشر الإخوة،

انظروا إلى ما خلَّفه الزلزال وتردداته من هزَّاته في تركيا وبعض القرى السورية الحدودية، بل وبعض النواحي اللبنانية لتعرفوا ما صرفه الله عنكم من البلاء، وشاهدوا التسجيلات بالصوت والصورة وقت الفاجعة لتروا تماوج الأرض وتضعضعها وانكسارها وانزلاقها وخسوفها وظهور الوهدَات العميقة السحيقة فيما بينها وقولوا: تبنا عُدنا فاعف عنَّا يا رب العالمين.

تأملوا في هذه الهزة التي هزَّت القلوب واعلموا أنها إشارةٌ كبرى مرت علينا في لبنان بلطفٍ من الله، فالحمد لله الذي دفع ما هو أعظم والحمد لله على سلامة من نجا من أهلنا وإخواننا وأصدقائنا وجيراننا وشفى الله المصابين ونجّى المحجوزين تحت الركام. هزةٌ مادت بها الأرض قليلًا أرعبت وأقلقت وكم من أناسٍ تعبوا وجمعوا من متاع الدنيا وحطامها فذهب ما جمعوه بلحظات وكم من أنفسٍ قضت وأُسَرٍ أضحت بلا مأوى.

 فقد ذهبوا وبَقِيْت فاحمد الله. ماتوا وما زال في عمُرك بقية فاغتنم أنفاسك. هلكوا ونجَّاك الله فاشكر لربك. وتذكَّر زلزلة القيامة فإن الله تعالى يقول في سورة الحج ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾.

هذا وأستغفر الله.

< Previous Post

الوضوء

Next Post >

خطبة الجمعة | ثبوت رمضان برؤية الهلال عيانيا لا بولادته حسابيا

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map