***
رسالة أبي حنيفة إلى البتي

الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ وبعد. هذه رسالةُ الإمامِ أبي حنيفة رضيَ اللهُ عنهُ إلى عثمان البتي.

من أبي حنيفةَ إلى عُثمانَ البَـتِّيِّ: سلامٌ عليكَ، فإني أحمدُ إليكَ اللهَ الذي لا إلهَ إلا هو: أما بعدُ فإني أوصيكَ بتقوى اللهِ وطاعتِهِ، وكفى باللهِ حسيبًا وجازيًا.

بلغني كتابُكَ، وفهمْتُ الذي فيه من نَصيحَتِكَ وحفظكَ لنا. وقد كتبتَ أنهُ دعاكَ إلى الكتابِ بما كتبتهُ حِرْصُكَ على الخيرِ والنصيحَةِ، وعلى ذلك كانَ موضِعَهُ عِنْدَنا.

كتبتَ تذكرُ أنهُ بلغكَ أني من المُرجِئَةِ، وأني أقولُ: مؤمنٌ ضالٌ، وأنَّ ذلكَ يشقُ عليكَ. ولعمري ما في شىءٍ باعد عن اللهِ تعالى عذرٌ لأهلِهِ، ولا فيما أحدثَ النَّاسُ وابتدعوا[1] أمرٌ يُهتدى به ، ولا الأمرُ إلا ما جاءَ به القرءانُ. ودعا إليه محمدٌ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، وكان عليهِ أصحابُهُ حتى تفرقَ النَّاسُ، وأما ما سوى ذلك فمُبْتَدَعٌ ومُحْدَثٌ[2]، فافهَمْ كتابي إليكَ، وأعلمْ أنهُ لولا رجاءُ أن ينفعكَ اللهُ به لم أتكلفْ الكتابَ إليكَ، فاحذرْ رأيكَ على نفسكَ، وتخوف أن يدخلَ الشيطانُ عليكَ. عَصَمنا اللهُ وإياكَ بطاعتِهِ، ونسألُهُ التوفيقَ لنا ولك برحمتِهِ.

ثم أُخبِرُكَ أنَّ النَّاسَ كانوا أهلَ شركٍ قبلَ أن يبعثَ اللهُ تعالى محمداً صلى اللهُ عليهِ وسلمِ ، فبعثَ محمداً يدعوهُمْ إلى الإسلامِ، فدعاهُم إلى أن يشهدوا أنهُ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، والإقرارِ بما جاءَ بهِ من اللهِ تعالى.

وكان الداخلُ في الإسلامِ مؤمنًا بريئًا من الشركِ ، حراماً مالهُ ودمهُ، له حقُ المسلمينَ وحُرمَتُهُم، وكان التاركُ لذلكَ حينَ دعا إليهِ كافراً بريئاً من الإيمانِ، حلالاً مالهُ ودمهُ، لا يُقْبَلُ منهُ إلا الدخولُ في الإسلامِ أو القتلِ. إلا ما ذكرَ اللهُ سبحانهُ وتعالى في أهلِ الكتابِ من إعطاءِ الجزيةِ، ثم نزلتِ الفرائضُ بعد ذلك على أهلِ التصديقِ.

فكان الأخذُ بها عملاً مع الإيمانِ ولذلك يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ:{ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وقال:{ ومنْ يؤمنُ باللهِ ويعملُ صالحاً} وأشباهُ ذلك من القرءانِ. فلم يكن المَضَيِّعُ للعملِ مضيعاً للتصديقِ. وقد أصاب التصديقَ بغير عملٍ. ولو كان المَضَيِّعُ للعملِ مُضيِّعاً للتصديقِ لانتقلَ من اسمِ الإيمانِ وحُرْمتِهِ بتضييعهِ العملَ كما أن النَّاس لو ضَيَّعوا التصديقَ لانتقلوا بتضييعهِ من اسمِ الإيمانِ وحُرْمَتِهِ وحقِّهِ، ورَجَعوا إلى حالهم التي كانوا عليها من الشركِ. ومما يُعْرَفُ به اختلافُهُما أن النَّاس لا يختلفونَ في التصديقِ. ولا يتفاضلونَ فيهِ. وقد يتفاضلونَ في العملِ. وتختلفُ فرائضُهُم . ودينُ أهل السماءِ ودينُ الرسولِ واحدٌ. فلذلك يقولُ اللهُ تعالى:{ شَرَعَ لكم من الدينِ ما وصّىَ به نوحاً والذي أوْحَينا إليك وما وصَّينا به إبراهيمَ وموسى وعيسى أن أقيموا الدينَ ولا تتفرقوا فيه}. واعلمْ أن الهدى في التصديقِ باللهِ ورُسُلِهِ ليس كالهدى فيما افتُرِضَ من الأعمال. ومن أين يُشكِلُ ذلك عليكَ؟ وأنت تُسَمِّيهِ مؤمناً وهو جاهلٌ بما لا يعلمُ من الفرائضِ فلا بُدَّ من أن تُسَمِّيه مؤمناً بتصديقِهِ، كما سماهُ اللهُ تعالى في كتابهِ وأن تُسمِّيهِ جاهلاً بما لا يعلمُ من الفرائضِ. وهو إنما يتعلمُ ما يجهلُ. فهل يكونُ الضالُ عن معرفةِ الله تعالى ومعرفةِ رسولهِ كالضالِ عن معرفةِ ما تعلَّمهُ النَّاسُ وهم مؤمنون؟ وقد قال الله تعالى في تعليمِهِ الفرائضَ : { يُبَيِّنُ اللهُ لكم أن تضـلُّوا واللهُ بـكل شىءٍ عليم} [3]، وقال:{ أنْ تُضِلَّ إحداهُما فتُذَكّرَ إحْداهُما الأخْرى} [4]، وقال :{ فَعَلْتُها إذا وأنا من الضَّالين}[5] يعني من الجاهلينَ. والحُجَّةُ من كتابِ اللهِ تعالى والسُنَّةِ على تصديقِ ذلك أبينُ وأوضحُ من أنْ تُشْكِلَ على مثلكَ، أوَلستَ تقولُ : مؤمنٌ ظالمٌ، ومؤمنٌ مذنبٌ، ومؤمنٌ مخطىٌ، ومؤمنٌ عاصٍ، ومؤمنٌ جائرٌ؟ هلْ يكونُ فيما ظَلمَ وأخطأَ مهتدياً فيهِ مع هُداهُ في الإيمانِ، أو يكونَ ضَالاَّ عن الحقِّ الذي أخطأهُ؟

وقول بني يعقوب لأبيهِمْ :{ إنَّكَ لفي ضلالكَ القديم}[6]، أتظُنُّ أنهم عنوْا: إنَّكَ لفي كفرك القديم ؟ حاشا للهِ أن تفهَمَ هذا، وأنتَ بالقُرءانِ عالم.

واعْلَمْ أنَّ الأمرَ لو كان كما كتبتَ به إلينا: أنَّ النَّاس كانوا أهلَ تصديقٍ قبلَ الفرائضِ، ثم جاءتِ الفرائضُ، لكانَ ينبغي لأهلِ التصديقِ أن يستحقُّوا اسمَ التصديقِ بالعملِ حين كُلِّفُوا به، ولم تفَّسر لي ما هُم عليه، وما دينُهم، وما مُستقُرُّهم عندك قبل ذلك؟ إذاً هم لم يَستَحِقُّوا الاسمَ إلا بالعملِ حينَ كلِّفوا.

فإن زعمتَ أنهم مؤمِنونَ تجري عليهم أحكامُ المسلمينَ وحُرُمتُهم، صدقتَ، وكان صواباً، لِما كتبتُ به إليكَ. وإنْ زَعمتَ أنهم كفارٌ فقد ابتدعتَ وخالفتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم والقرءانَ. وإن قلتَ بقولِ من تعَنَّتَ من أهل البدعِ، وزَعمْتَ أنَّهُ ليس بكافرٍ ولا مؤمنٍ، فاعلمْ أن هذا القولَ بدعةٌ وخلافٌ للنبي صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابهِ.

وقد سُمِّيَ عليٌّ رضي اللهُ عنهُ أميرَ المؤمنينَ، وعمرٌ رضي اللهُ عنهُ أميرَ المؤمنينَ، أوَ أميرُ المطيعينَ في الفرائضِ كلِّها يعنون؟ وقد سَمَّى عليُّ أهلَ حربِهِ من أهلِ الشَّام مؤمنينَ، في كتابِ القَضِيَّة. أوكانوا مهتدينَ وهو يقتلُهُم ؟ وقد اقْتَتَل أصحابُ رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، ولمْ تكنِ الفئَتانِ مُهتَديتيْنِ جميعاً، فما اسمُ الباغيةِ عندكَ؟

فواللهِ ما أعلمُ من ذنوبِ أهل القبلةِ ذنباً اعظمَ من القتلِ، ثمَّ دماءِ أصحابِ محمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ خاصَّةً. فما اسمُ الفريقْين عندكَ؟ وليسا مهْتَديين جميعاً.

فإن زعمتَ أنهُما مُهتَديانِ جميعاً ابتدعتَ، وإن زعمتَ أنهُما ضالانِ جميعاً ابتدعتَ، وإن قلتَ: إنَّ أحَدَهُما مُتهدٍ فما الآخرُ؟ فإن قلتَ: اللهُ أعلمُ، أصَبْتَ. تَفَهَّمْ هذا الذي كتبتُ به إليكَ.

وأعلم أني أقولُ: أهلُ القبلةِ مؤمنونَ، لستُ أُخْرِجُهُم من الإيمانِ بتضييعِ شىءٍ من الفرائضِ، فمن أطاعَ اللهَ تعالى في الفرائضِ كلّها مع الإيمانِ كان من أهلِ الجنَّةِ عندنا، ومن تركَ الإيمانَ والعملَ كان كافراً من أهلِ الناَّرِ، ومن أصابَ الإيمانَ وضيَّعَ شيئاً من الفرائضِ كان مؤمناً مذنباً، وكان للهِ تعالى فيهِ المشيئةُ إنْ شاءَ عذبَهُ وإنْ شاءَ غفرَ لهُ، فإن عذبهُ على تضييعهِ شيئاً فعلى ذنبِ يعذّبُهُ، وإن غفرَ لهُ فذنباً يغْفِرُ.

وإني أقولُ فيما مضىَ من اختلافِ أصحابِ رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلمَ فيما كان بينَهُم: اللهُ أعْلَمُ. ولا أظنُّ هذا إلا رأيكَ في أهلِ القبلةِ، لأنَّهُ أمْرُ أصحاب رسول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ وأمرُ حملةِ السنَّةِ والفِقْهِ.

زعَمَ أخُوكَ عطاءُ بنُ أبي رباحٍ، ونحنُ نَصِفُ له هذا أنَّ هذا أمْرُ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

وزعَمَ سالمٌ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ: أنَّ هذا أمرُ أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

وزعَمَ أخُوكَ نافعٌ أنَّ هذا أمرُ عبد اللهِ بنِ عمرَ رضي اللهُ عنهما.

وزعَمَ ذلك أيضاً عبدُ الكريمِ عن طاوسَ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما أنَّ هذا أمرهُ.

وقد بلغَني عن علي بنِ طالبٍ رضي اللهُ تعالى عنهُ حينَ كتبَ القضيَّةَ أنهُ يُسمِّي الطائفتَيْنِ مؤمنينَ جميعاً.

وزعَمَ ذلك أيضاً عُمَرُ بنُ عبد العزيز كما رواهُ من لقيَهُ من إخوانكَ فيما بلَغَني عنكَ ثم قال: ضَعوا لي في هذا كتاباً، ثمَّ أنْشأ يُعلِّمُهُ ولدَهُ، ويأمُرُهم بتعليمِهِ – علِّمْهُ جلساَءَكَ رَحِمَكَ اللهُ تعالى – فكان بمكانٍ من المسلمينَ.

واعْلمْ أنَّ أفضلَ ما علَّمتُم وما تُعلِّمونَ النَّاس السُنَّةَ، وأنت ينبَغي لك أنْ تعرفَ منْ أهلُها الذين ينبغي أن يتعلَّموها.

وأمّا ما ذكرْتَ من اسم المرجِئَةِ فما ذنبُ قومٍ تكلَّموا بعدْلٍ، وسمَّاهم أهلُ البدعِ بهذا الاسمِ؟ ولكنَّهم أهلُ العدلِ وأهلُ السُنَّةِ، وإنَّما هذا الاسمُ سمّاهُم به أهلُ البتةَ، ولَعَمْري ما يُهَجِّنُ عدلاً لو دعوتَ إليه النَّاسَ فوافقوكَ عليه أنْ يُسمِّيَهُم أهْلُ شنآنِ المرْجئَةَ، فلوْ كانوا فعلوا ذلكَ كان هذا الاسمُ بدْعةً، فهل يُهَجِّنُ ذلك ما أخذتَ بهِ من أهل العدلِ؟

ثمَّ إنَّهُ لوْلا كراهيةُ التَّطويلِ، وأنْ يَكثُرَ التَّفسيرُ لشرحتُ لك الأُمورَ التي أجبتُكَ بها فيما كتَبْتُ بِهِ، ثُمَّ إنْ أشْكَلَ عليكَ شىءٌ أو أَدخَلَ عليكَ أهلُ البدعِ شيئاً فأعلمْني أجبْكَ فيه إن شاءَ اللهُ تعالى، ثُمَّ لا ءالوكَ ونَفْسي خيراً واللهُ المستعانُ.

لا تَدعِ الكتابَ إليَّ بسلامكَ وحاجَتِكَ، رزقَنا اللهُ منقَلباً كريماً وحياةً طيبةً، وسلامُ اللهِ عليكَ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ. والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلى اللهُ على سيِّدنا محمدٍ وعلى ءالهِ وصحْبهِ أجمعينَ.

انتهت رسالة الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه إلى عثمان البتي رحمه الله.

 

[1] أي ما أُحدِثَ منَ البدعِ السيئةِ.

[2] قولُهُ ما سوى ذلكَ فمبتَدَعٌ ومحدثٌ: معناهُ ما استحدثَ منَ البدعِ السيئةِ المخالفةِ للقرءانِ والسنةِ بحيثُ لو اطلع عليهِ الصحابةُ لأنكروه أما المحدثُ الموافقُ للقرءانِ والحديثِ ومَدَحَهُ الصحابةُ فيندَرِجُ تحتَ البدعةِ الحسنةِ الممدوحةِ.

[3] سورة النساء ءاية 176 .

[4] سورة البقرة ءاية 282 .

[5] سورة الشعراء ءاية 20 .

[6] سورة يوسف ءاية 95 .
 

 

 

< Previous Post

وصيةُ الإمامِ أبي حنيفةَ رحمةُ اللهِ عليهِ لتلميذهِ يوسفَ بنِ خالدِ السَّمتيِّ البصريِّ

Next Post >

فـتـاوى السُـنّــة – مقدمة

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map