سؤال : من أكثر المسائل شهرة عن تاج الهلالي في لاكمبا إحدى ضواحي سدني – أستراليا أنه أحل أكل اللحم المشكوك فيه أي الذي شك فيه هل ذبح على الطريقة الإسلامية أم لا، أو شك هل ذبحه من تؤكل ذبيحته أم لا ، وقال الهلالي: سموا الله وكلوا ، مما دعا الكثيرون إلى بيع اللحوم المحرمة وأكلها على ذمة الشيخ أو رقبته .ما الرد الشرعي ؟
الرد : اعلم أيها القارىء أن الذكاة الشرعية تكون بقطع مجرى الطعام والشراب ومجرى النفس بما له حدّ، بشرط أن يكون الذابح مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً. فإذا حصل هذا وكان المذبوح مأكولاً حلَّ الأكل منه لمن علم، وأمّا ما كان موته بما لا حدّ له، كأن مات بسبب التردّي أو الغرق أو شىء يزهق الروح بثقله لا بحدّه فلا يحلّ أكله. وأيضاً لايحلّ أكل ما لم يعلم هل ذابحه هو ممن يصحّ تذكيته أم لا، لأن أمر اللحم في هذا أشد من أمر الجبن والحلوى ونحوهما، فإنه إذا شك شخص هل في الحلوى التي بين يديه أو الجبن الذي بين يديه نجاسة جاز له الأكل منه مع الشك،
وأمّا اللحم فلا يجوز الشروع في أكله مع الشك في ذكاته كما نصّ على ذلك الفقهاء كابن حجر الهيتمي والسيوطي من الشافعية والقرافي من المالكية وغيرهم. بل تحريم اللحم الذي لم يعلم طريق حله بأنه شُك في ذلك مجمع عليه.
قال الفقيه النووي في كتاب المجموع شرح المهذب باب الصيد والذبائح ، الأفضل أن يكون المذكي مسلما [ ج9/80] : “فرع ) لو وجدنا شاة مذبوحة ولم ندر من ذبحها فإن كان في بلد فيه من لا يحل ذكاته كالمجوس لم تحل ، سواء تمحضوا أو كانوا مختلطين بالمسلمين للشك في الذكاة المبيحة ، والأصل التحريم ، وإن لم يكن فيهم أحد منهم حلت والله أعلم “اهـ.
وفي الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي (1/ 45 و 46): ” وسئل نفع الله ببركاته عن شاة مذبوحة وجدت في محلة المسلمين ببلد كفّار وثنية، وليس فيهم مجوسي ولا يهودي ولا نصراني، فهل يحلّ أكل تلك الشاة المذبوحة التي وجدت في تلك المحلة أم لا؟ فأجاب: بأنه حيث كان ببلد فيه مَن يحلّ ذبحه كمسلم أو يهودي أو نصراني، ومَن لا يحلّ ذبحه كمجوسي أو وثني أو مرتد، ورؤي بتلك البلد شياه مذبوحة مثلاً، وشكّ هل ذبحها مَن يحلّ ذبحه لم تحلّ للشك في الذبح المبيح والأصل عدمه ” ا. هـ.
وفي الأشباه والنظائر للسيوطي (ص/ 74) ما نصّه: ” الفائدة الثانية: قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني: الشك على ثلاثة أضرب شك طرأ على أصل حرام، وشك طرأ على أصل مباح، وشك لا يعرف أصله، فالأول مثل أن يجد شاة في بلد فيها مسلمون ومجوس فلا يحلّ حتى يعلم أنها ذكاة مسلم لأنها أصلها حرام وشككنا في الذكاة المبيحة ” ا. هـ.
وقال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم عند شرحه الحديث السادس :” وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان فلا يحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد، فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب ءاخر رجع إلى الأصل فبنى عليه، فيبني فيما أصله الحرمة على التحريم، ولهذا نهى النبي من أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه أو كلب غير كلبه أو يجده قد وقع في ماء وعلل بأنه لا يدري هل مات من السبب المبيح له أو من غيره “. اهـ
وفي كتاب التاج والإِكليل لمختصر خليل (التاج والإكليل لمختصر خليل، انظر هامش كتاب مواهب الجليل شرح مختصر خليل (1/301)) باب الوضوء نقلاً عن شهاب الدين القرافي ما نصّه: ” الفرق الرابع والأربعون بين الشك في السبب والشك في الشرط، وقد أشكل على جمع من الفضلاء قال: شرع الشّارع الأحكام وشرع لها أسباباً وجعل من جملة ما شرعه من الأسباب الشك، وهو ثلاثة مجمع على اعتباره كمَن شك في الشاة المذكّاة والميتة وكمَن شكّ في الأجنبية وأخته من الرضاعة ا. هـ.
أي أنَّ تحريم ما شُك فيه من اللحم مسئلةٌ إجماعية، فلا التفات إلى ما يُخالفُ هذا الإِجماع من قول الهلالي ، وهذا ضرّ النَّاسَ برأيه المخالف للإِجماع في أستراليا، ومَوّه بإيراد حديث أخرجه البخاري على غير وجهه، والحديث وردَ في ذبيحةِ أناس مسلمين قريبي عهد بكفر وذلك لقول عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا فَقَالَ: ” سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ”، قَالَتْ وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ . أورده البخاري بهذا اللفظ في جامعه في كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد : باب ذبيحة الأعراب .
وأورده أَبو دَاوُدَ في سننه في كِتَاب الضَّحَايَا ، باب ماجاء في أكل اللحم لا يُدْرَى أذكر اسم الله عليه أم لا ، بلفظ : عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ يَأْتُونَ بِلُحْمَانٍ لا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا ، أَفَنَأْكُلُ مِنْهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ” سَمُّوا اللَّهَ وَكُلُوا”.
وأورده الحافظ البيهقي ِفي السُّنَن الْكُبْرَى ، كِتَاب الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ ، بَاب مَنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ ، بلفظ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَهُنَا أَقْوَامًا حَدِيثَ عَهْدٍ بِشِرْكٍ يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانٍ لا نَدْرِي يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لا . فَقَالَ النَّبِيُّ : ” اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا ” .
ومعنى الحديث أن هذه اللحوم حلال لأنها مذكّاة بأيدي مسلمين ولو كانوا حديثي عهد بكفرٍ، ولا يضرّكم أنكم لم تعلموا هل سمّى أولئك عند ذبحها أم لا، وسمّوا أنتم عندَ أكلها أي ندباً لا وجوباً. لأن التسمية سنّة عند الذبح فإن تركها الذابح حل الأكل من الذبيحة. ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه مسلم في الصحيح عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ:قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ : ” وَإنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإنْ غَابَ عَنْكَ يَوْماً فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلاَّ أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إنْ شِئْتَ، وَإنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقاً فِي الْمَاءِ، فَلاَ تَأْكُلْ”.قال النووي في شرح صحيح مسلم: قوله : (وَإنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقاً فِي الْمَاءِ، فَلاَ تَأْكُلْ) هذا متَّفق على تحريمه. اهـ
وأما عن حكم التسمية عند الإرسال على الصَّيد وعند الذَّبح والنَّحر، ، فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم (13/74): ” فمذهب الشَّافعي وطائفة: أنَّها سنَّة، فلو تركها سهواً أو عمداً حلَّ الصَّيد والذَّبيحة، وهي رواية عن مالك وأحمد. وقال أهل الظَّاهر: إن تركها عمداً أو سهواً لم يحلّ، وهو الصَّحيح عن أحمد في صيد الجوارح، وهو مروي عن ابن سيرين، وأبي ثور.وقال أبو حنيفة، ومالك، والثَّوريُّ، وجماهير العلماء: إن تركها سهواً حلَّت الذَّبيحة والصَّيد، وإن تركها عمداً فلا ، وعلى مذهب أصحابنا يكره تركها، وقيل: لا يكره، بل هو خلاف الأولى، والصَّحيح: الكراهة “. اهـ
فمن أين مَوّه هذا بإيراد هذا الحديث على غير وجهه فكأنه قال إنَّ الرسولَ أحلَّ أكلَ ما لم يُعلم هل ذابحه مسلمٌ أم مجوسي أم بوذي أم غير ذلك بالاقتصار على التسمية عند الأكل، وهذا لم يقلّهُ عالم مسلمٌ قطّ، فليتّق اللهَ هذا المتهور، وليعلم أنَّ الإِنسان يُسألُ يوم القيامةِ عن أقوالِهِ وأفعالِهِ وعقائدِهِ .