صفة الكلام
قال المجسمة المشبهة: الله متكلم بكلام هو حروف وأصوات متعددة يحدث فى ذاته ثم ينقطع، ثم يحدث ثم ينقطع، ووصل الغلو ببعضهم إلى اعتبار حروف اللفظ المنـزل بين دفتي المصحف قديمة غير مخلوقة.(1)
وأما المعتزلة قالوا: لا يوصف بصفة الكلام وإنما كلامه تعالى حروف وأصوات يخلقها في غيره كاللوح أو جبريل أو الرسول أو الشجرة وهو حادث (2).
وأما إمام أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري فقال قولاً ثالثًا وسطًا بين القولين الأولين، وحكم بأن ما نقرؤه من القرءان كلام الله بمعنى أنه ليس من تصنيف بشر ولا ملك وبمعنى أنه دال على الكلام الأزلي.
وإطلاق كلام الله على اللفظ المنـزل حقيقة شرعية (3). أما كلام الله الذاتي فقديم غير مخلوق وما كان كذلك لا يكون حرفا ولا صوتا. (4)
وقال الحافظ ابن عساكر فى (تبيين كذب المفترى) متحدثا عن عقيدة الإمام الأشعرى رضى الله عنه: وكذلك قالت المعتزلة: كلام الله مخلوق مخترع مبتدع وقالت الحشوية الـمجسمة: الحروف المقطعة والأجسام التي يكتب عليها والألوان التي يكتب بـها وما بين الدفتين كلها قديمة أزلية، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما فقال: القرءان كلام الله قديم غير مغير ولا مخلوق ولا حادث ولا مبتدع فأما الحروف المقطعة والأجسام والألوان والأصوات والمحدودات وكل ما في العالم من المكيفات مخلوق مبتدع مخترع.اهـ (5)
وهذا ما كان عليه السلف الصالح فقد صرح الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه وهو من أساطين علماء السلف فقد ولد سنة ثمانين للهجرة، في كتابه الفقه الأكبر: “ويتكلم لا ككلامنا نحن نتكلم بالآلات من المخارج والحروف والله متكلم بلا ءالة ولا حرف” اهـ بحروفه.(6)
وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في”الفقه الأكبر” و “الوصية”: “والقرءان كلام الله غير مخلوق، ووحيه وتنـزيله على رسول الله مكتوب في المصاحف مقروء بالألسنة محفوظ في الصدور غير حالّ فيها والحبر والكاغد والكتابة والقراءة مخلوقة لأنـها أفعال العباد “.اهـ (7)
وأنكر الإمام أحمد بن حنبل على من يقول: لفظي بالقرءان مخلوق يريد به أن القرءان مخلوق.اهـ (8)
وأنكر على من يقول: لفظي بالقرءان غير مخلوق.اهـ (9)
وقال الإمام أبو عبد الله البخاري في كتابه خلق أفعال العباد: القرءان كلام الله وليس بمخلوق.اهـ (10)
وقال: أفعال العباد مخلوقة.اهـ (11)
فوائد منثورة في مسألة الكلام
الفائدة الأولى: ذهب العلماء في تفسير قول الله تعالى في سورة يس{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:82] مذهبين: قال الإمام أبو منصور الماتريدي: إنه عبارة عن سرعة الإيجاد وتكوينه عند تعلق إرادته بلا تراخ ولا تعذّر. وقال الإمام البيهقي الأشعري: عبارة عن حكم الله الأزلي بوجود الشىء فيحدث المراد له تعالى في وقته الذي شاء وعلم حدوثه فيه.اهـ (12)
الفائدة الثانية: اتفق أهل السنة على “وحدة كلام الله تعالى” قاله الإمام أبو علي السكوني الإشبيلي (ت717هـ)، في كتابه “التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزال في تفسير كتاب العزيز” وعبارته: “وكلام الله سبحانه واحد بإجماع الأمة”.اهـ، وكذلك الإمام البيهقي ذكر “وحدة الكلام” في كتابين من كتبه. وعبارته في كتابه الاعتقاد ما نصه: “وكلام الله واحدٌ لم يزل ولا يزال”اهـ.
الفائدة الثالثة: قال الشيخ الإمام ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي ما نصه(ص ٥٥٩ “مخطوط”): قال الشيخ الإمام أبو علي الحسن بن عطاء في أثناء جواب عن سؤال وجه إليه سنة إحدى وثمانين وأربعمائة: الحروف مسبوق بعضها ببعض، والمسبوق لا يتقرر في العقول أنه قديم فإن القديم لا ابتداء لوجوده، وما من حرف وصوت إلا وله ابتداء، وصفات البارىء جل جلاله قديمة لا ابتداء لوجودها، ومن تكلم بالحروف يترتب كلامه، ومن ترتب كلامه يشغله كلام عن كلام، والله تبارك وتعالى لا يشغله كلام عن كلام، وهو سبحانه يحاسب الخلق يوم القيامة في ساعة واحدة، فدفعة واحدة يسمع كل واحد من كلامه خطابه إياه، ولو كان كلامه بحرف ما لم يتفرغ عن يا إبراهيم ولا يقدر أن يقول يا محمد فيكون الخلق محبوسين ينتظرون فراغه من واحد إلى واحد وهذا محالٌ .اهـ
الفائدة الرابعة: قال المحدث الشيخ محمد زاهد الكوثري المتوفى سنة ١۳٧١هـ في مقالاته (ص۳٢) ما نصه: ولم يصح في نسبة الصوت إلى الله حديث.اهـ، وكذا قال الإمام الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات (ص/٢٧۳). والإمام المحدث الشيخ عبد الله بن محمد الهرري الشيبي في كتابه الدليل القويم (ص 255 ).
وقد ذكر الفقيه المتكلم ابن المعلم القرشي المتوفى سنة ٧٢٥ هـ في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي (ص ٢٤٩ “مخطوط”). أثناء ترجمة الحافظ ناصر السنة أبي الحسن علي بن أبي المكارم المقدسي المالكي أنه ((صنف كتابه المعروف بكتاب الأصوات أظهر فيه تضعيف رواة أحاديث الأصوات وأوهامهم))اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في شرحه على البخاري ج١/١٧٤و١٧٥: ((لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو اعتضدت)) ا.هـ.
الفائدة الخامسة: وأما ادعاء البعض أن علم الكلام مذمومٌ على الإطلاق، فمردود، وذلك أن علم الكلام الذي يشتغل به أهل السنة والجماعة في تقرير معتقداتـهم هو علمٌ ممدوحٌ اشتغل به العلماء من السلف والخلف ولا سيما الشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة كما ذكر الإمام أبو منصور البغدادي المتوفى سنة ٤٢٩ هـ في أصول الدين والحافظ ابن عساكر المتوفى سنة ٥٧١ هـ في تبيين كذب المفتري والإمام الزركشي المتوفى سنة ٧٩٤ هـ في تشنيف المسامع وغيرهم، بل سماه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه بالفقه الأكبر.
وقد قال إمام أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه المتوفى سنة ۳٢٤هـ:
((أول ما يجب على العبد العلم بالله ورسوله ودينه)) اهـ.
وهذا العلم أصله كان موجودا بين الصحابة متوفرا بينهم أكثر ممن جاء بعدهم، والكلام فيه بالرد على أهل البدع بدأ في عصر الصحابة، فقد رد ابن عباس وابن عمر على المعتزلة، ومن التابعين رد عليهم عمر بن عبد العزيز والحسن بن محمد ابن الحنفية وغيرهما.
ونحيل المنكرين إلى قراءة كتاب “عقيدة العوام” للشيخ أحمد المرزوقي المولود سنة ١٢۰٥هـ وكتاب “كفاية الصبيان فيما يجب من عقائد الإيمان وعمل الأركان” للمحدث أبي المحاسن القاوقجي الطرابلسي المتوفى سنة ١۳۰٥ هـ.
وأما علم الكلام الذي يشتغل به أهل البدع كالخوارج والنجارية والمرجئة والمعتزلة والكرامية والحشوية فهو علمٌ مذموم ذمه علماء السلف، لذا قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: ((لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خيرٌ له من أن يلقاه بشىء من هذه الأهواء)) رواه الإمام الـمجتهد أبو بكر بن المنذر وأخرج طرقه الحافظ ابن عساكر في تبيين كذب المفتري وغيرهما، والأهواء جمع هوى وهو ما مالت إليه نفوس المبتدعة الخارجين عما كان عليه السلف.اهـ
(1)مجموع الفتاوى لابن تيمية ج5/556، وذكروا ذلك في عدة من كتبهم ككتاب “الكواشف الجلية عن معاني الواسطية” (ص220) وكتابـهم المسمى “نجاة الخلف” (ص25). وذكروا في كتابـهم المسمّى كتاب السنّة ص77 ما نصّه: “وكلّم الله موسى تكليمًا من فيه وناوله التوراة من يده إلى يده” اهـ بحروفه.
(2) انظر الرد عليهم كتاب المسامرة شرح المسايرة ص/82 لابن أبي شريف المقدسي الشافعي(ت 905 هـ).
(3) انظر تشنيف المسامع للزركشي ص 355 (مخطوط)
(4) انظر نـهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني: ص/313 وقال: هو مذهب السلف.اهـ وقال العز بن عبد السلام وهو أحد أساطين الأشاعرة في رسائله في التوحيد ص12 ما نصه: “فالله متكلم بكلام قديم أزلي ليس بحرف ولا صوت ولا يتصور في كلامه أن ينقلب مدادًا في اللوح والأوراق شكلاً ترمقه العيون والأحداق كما زعم أهل الحشو والنفاق بل الكتابة من أفعال العباد ولا يتصور من أفعالهم أن تكون قديمة ويجب احترامها لدلالتها على كلامه كما يجب احترام أسمائه لدلالتها على ذاته” إلى أن قال: “فويل لمن زعم أن كلام الله القديم شىء من ألفاظ العباد أو رسم من أشكال المداد” اهـ. وقال الإمام محمد بن إبراهيم الحموي: من قال إن الله متكلم بحرف وصوت فقد قال قولاً يلزم منه أن الله جسم ومن قال إنه جسم فقد قال بحدوثه، ومن قال بحدوثه فقد كفر، والكافر لا تصح ولايته ولا تقبل شهادته اهـ.
(5) ص 150
(6) ص 58
(7) انظر إشارات المرام شرح عبارات الإمام أبي حنيفة، للبياضي، ص/167
(8) انظر شرح الإرشاد لأبي القاسم الأنصاري (ق/161-163).
(9) صحح ذلك عنه ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة ج3/309، وابن أبي بكر السعدي الحنبلي في كتابه الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد بن حنبل ص/59، وابن الجوزي في مناقب أحمد ص/155، ونقل ذلك أيضا عنه البيهقي في الأسماء والصفات ص/ 265.
(10) ص 29
(11) ص 47
(12) انظر الدليل القويم على الصراط المستقيم ص/269 للمحدث الشيخ عبد الله الهرري الشيبي.