خطبة الجمعة

إِنَّ الحمْدَ للهِ نحمدُهُ ونَستَغفِرُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيْه وَنَشْكُرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنـا وَمِنْ سَيِّـئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى سيِّدِنا محمدٍ وَعَلَى ءالِهِ وَصَحْبِه، وأَشْهَدُ أَنْ لا إلِٰهَ إِلّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيـكَ لَهُ وَلا مَثِيلَ لَهُ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لَه، وَلا والِدَ وَلا وَلَدَ وَلا صاحِبَةَ لَهُ، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا وَحَبِيبَنا وَعَظِيمَنا وَقائِدَنا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنَا محمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَحَبِيبُهُ، صلّى اللهُ وَسَلَّمَ عليهِ وَعلَى كُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَه.

أَمّا بَعدُ عِبادَ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العليِّ القَديرِ القائِلِ في مُحْكَمِ كِتابِهِ: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ . وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ومِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

وروى البخاري في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ»، وزاد البخاري في رواية: «لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ».

إِخْوةَ الإيمان، أخبرنا الله تعالى في القرءان الكريم أن الملائكة عليهم السلام قالت لمريم عليها السلام: يا مريم إنّ الله يبشرك ببُشرى من عنده[1]، هي ولدٌ لك اسمهُ المسيحُ عيسى ابن مريم، وأعلموها أنّ الله خالقٌ منها ولدًا من غير بَعْل ولا فَحل، مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا نُطْفَةٍ، كما قالَ تَعالى في الْقُرءانِ الْكَرِيم ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾.

وأما سبب تسميته مسيحا، فحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لأنه لم يمسح ذا عاهة إلا برئ. وقيل: لمسحه الأرض أي قطعها لنشر الإسلام، وقيل غير ذلك. والله أعلم.

وأما معنى قوله تعالى في سورة النساء: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾، فقَوْلُهُ: ﴿ وَكَلِمَتُهُ ﴾ أي البشارةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ أَنْ تَأْتِيَ مَرْيَمَ بِهَا، وَقَوْلُهُ: ﴿ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ أي أَعْلَمَهَا بِهَا وَأَخْبَرَهَا، وأما قَوْلُهُ ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ أي بتخليقه تعالى وتكوينه كسائر المخلوقات، وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال: بيت الله، وناقة الله. وأما لفظة ﴿مِنْهُ﴾ فليست ههنا للتبعيض ولا للجزئية ولا للحلول، وإنما المراد التشريف والتفضيل.

قالَ اللهُ تعالَى ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَآءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا(26)﴾. 

إِخْوَةَ الإِيمانِ، نَفَخَ جبريلُ عليه السّلامُ في جَيْبِ دِرْعِ السَّيدَةِ مَريَمَ وهي الفتحةُ التي عند العُنُق، فحَمَلَتْ بِعِيسى عليه السّلامُ ثم تَنَحَّتْ بِحَمْلِها بَعيدًا خَوْفَ أَنْ يُعَيّرَها النّاسُ بِولادَتِها مِن غَيْرِ زَوْج، ثُم ألجأَها وجعُ الولادةِ إلى ساقِ نخلةٍ يابِسةٍ، وَهناكَ خَوْفًا منْ أَذى الناس، تَمنَّتِ الموْتَ فَناداها جبريلُ عليه السلام مِنْ مَكانٍ منْ تحتِها منْ أسفلِ الجبلِ يُطَمْئِنُها وَيُخْبِرُها أَنّ اللهَ تَبارك وتعالى جَعَلَ تَحتَها نهرًا صَغِيرًا ويَقُولُ لَـها أَنْ تهُزَّ جِذْعَ النخلةِ لِيتساقطَ عليها الرُّطبَ الجَنيَّ الطَّرِيَّ وَأنْ تَأْكُلَ وتَشْربَ مما رَزقَها اللهُ وأَنْ تَقرَّ عَينُها وأَنْ تَقولَ لمن رَءاها وسأَلها عَنْ وَلَدِها إِنِّي نَذَرْتُ لِلرحمٰنِ أَنْ لا أُكَلِّمَ أَحَدًا، وَكانَ هٰذا نَذْرًا صَحِيحًا فِى الْشَّرائِعِ الْسّابِقَة.

ثُمّ بَعدَ الوِلادَةِ المبارَكة أَيُّها الأَحبابُ، أَتَتِ السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ عَلَيْها الْسّلامُ قَوْمَها تحمِلُ مَوْلُودَها عِيسى عَليه الصّلاةُ والسّلام كَما أَخبرَنا اللهُ عزّ وجَلّ ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾.

قالَ لها قَوْمُها: لَقَدْ فَعَلْتِ فِعْلةً مُنْكرةً عَظِيمَةً، ظَنُّوا بها الْسُّوءَ وَصارُوا يُوَبِّخُونَها وَيُؤْذُونَها، ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ هو رجل صالح في زمانها شبهوها به ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ﴾ عمران ﴿ امْرَأَ سَوْءٍ﴾ رَجُلَ سُوءٍ يَأْتِي الْفَوَاحِشَ ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ﴾ حنَّة ﴿ بَغِيًّا ﴾ زانية. وَهي ساكِتةٌ لا تُجِيبُ لأَنَّها أخْبرَتْهُم أَنَّها نَذَرَتْ لِلرحمٰنِ صَوْمًا، ولما ضاقَ بها الحالُ، أَشارتْ إلى عِيسى عليه السلامُ أَنْ كَلِّمُوه، ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ عند ذلك إِخْوَةَ الإِيمانِ، أنْطَقَ اللهُ تعالى القادِرُ عَلى كُلِّ شىء بِقُدْرَتِهِ سيّدَنا عيسى عليه السلام، وكان رَضِيعًا، أَنْطَقَهُ اللهُ فِى الْمَهدِ فَكانَتْ أولُ كلمةٍ قالها علَيْهِ الْسّلام، ﴿ قَالَ إنِّي عبدُ الله﴾، اعْترافًا بِعُبُودِيَّتِهِ لله الواحِدِ القَهّار ﴿ءاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾، أَيْ جَعَلَنِي نَفّاعًا مُعَلِّمًا للخَيرِ حَيثُما تَوَجَّهْتُ ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا . وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا . وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾.

وَنَشَأَ عِيسَى عَلَيْهِ السّلام نَشْأَةً حَسَنَةً، حَتّى أَنْزَلَ اللهُ عَلَيهِ الوَحيَ فَدَعا قَوْمَهُ كَسائِرِ الأَنبياءِ وَالمرْسَلِينَ إلى الإِسْلامِ إِلى عِبادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وعَدَمِ الإشْراكِ به شيئًا، ولكنَّهُم كَذّبُوهُ وحَسَدُوهُ وَقالُوا عَنْهُ ساحِرٌ، ولم يُؤْمِنْ بِه إلّا القَليلُ، وَءاذَوْهُ وَسَعَوْا إِلَى قَتْلِهِ لكنَّ اللهَ حَفِظَهُ، فَلم يُقْتلْ ولم يُصلبْ، بلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَى السّماءِ محلِّ كرامته، وسيُنْـزلُه إلى الأرض. ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾.

                                                                                                                                                                                                                                     هذا وأستغفر الله لي ولكم

[1]  وهو اختيار الطبري في تفسيره.

< Previous Post

خطبة الجمعة | نِعَمُ اللهِ الظَّاهِرَةُ والبَاطِنَة

Next Post >

التَّوكُّلُ على اللهِ والتحذيرُ من الكَهَنَةِ والعرّافينَ

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map