إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونَستعينُه ونستغفرُه ونستهديهِ ونشكرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفُسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهْدِ اللهُ فلا مُضلَّ لهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ. وأشهدُ أن لا إلـهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ، ولا مَثِيلَ ولا شبيهَ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لَهُ. وأشهدُ أنَّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنا مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وحبيبُه، مَنْ بعثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، هاديًا ومُبشِّرًا ونذيرًا، بَلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأُمَّةَ، فجزاهُ اللهُ عنَّا خيرَ ما جَزَى نبيًّا مِنْ أنبيائهِ. اللهُمَّ صَلِّ على سَيِّدِنا مُحمَّدٍ وعلَى ءالِه وأَصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرينَ.

أما بعد عِبادَ اللهِ فإنّي أُوصِي نفسِي وأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ القَديرِ القَائِلِ في مُحكَمِ كِتَابِه:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ، أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ (20)﴾ سورة الحشر/18- 20.

إخوةَ الإيمان، كَلامُنَا اليومَ عَن حياةِ البَرْزَخِ وَمَا فِيهَا، يِقُولُ رَبُّنا تباركَ وتعالَى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾ أَيْ مَنْ أَعْرَضَ عنِ الإِيمانِ بِاللهِ تعالَى ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾ أَىْ ضَيِّقَةً في القَبْرِ، كَمَا فَسَّرَهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم. وروَى التِّرمِذِيُّ عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّار اﻫ، وَفِي سُنَنِ النَّسائِيِّ عن عائِشةَ رضِيَ اللهُ عنها قالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَذَابِ القَبْرِ فَقَالَ: نَعَمْ عَذَابُ القَبْرِ حَقٌّ اﻫ.

فَمِمَّا يَجِبُ التَّصدِيقُ بِهِ إِخْوَةَ الإِيمانِ عَذَابُ القَبْرِ لِلْكَافِرِ وَلِبَعْضِ عُصَاةِ الْمُسلِمِينَ، قالَ الإِمامُ أبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللهُ عنهُ في الفِقْهِ الأَكْبَرِ: وَضَغْطَةُ القَبْرِ وَعَذَابُهُ حَقٌّ كَائِنٌ لِلْكُفَّارِ وَلِبَعْضِ عُصَاةِ المسلِمِين اﻫ، فلا يَجُوزُ إِنْكَارُ عَذَابِ القَبْرِ، بَلْ إِنْكَارُهُ كُفْرٌ، قالَ الإِمامُ أبو منصورٍ البغْدَادِيُّ في كِتَابِ الفَرْقِ بَيْنَ الفِرَقِ: وَقَطَعُوا -أَيْ أَهْلُ السنّةِ والجماعَةِ- بِأَنَّ الْمُنْكِرِينَ لِعَذَابِ القَبْرِ، يُعَذَّبُونَ فِي القَبْرِ اﻫ، أَىْ لِكُفْرِهِم.

وهذا العذابُ أَيُّها الأَحِبَّةُ يَكُونُ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ، لكنَّ اللهَ يَحْجُبُهُ عَنْ أبْصَارِ أَكْثَرِ النَّاسِ، لِيَكُونَ إِيمانُ العَبْدِ إِيمانًا بِالغَيْبِ فَيَعْظُمُ ثَوابُه. وَيَدُلُّ علَى كَوْنِ العَذَابِ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ مَا وَرَدَ عَنْ سيِّدِنا عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضِىَ اللهُ عنهُ، أنهُ سَأَلَ الحبيبَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم: أَتُرَدُّ عَلَيْنَا عُقُولُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ كَهَيْئَتِكُمُ اليَوْمَ اﻫ قالَ فَبِفِيهِ الْحَجَر، أَيْ سَكَتَ وَانْقَطَعَ عَنِ الكَلامِ لِسَمَاعِهِ الْخَبَرَ الذِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ.

ومِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى عَذَابِ القَبْرِ أَيْضًا قَولُ اللهِ تباركَ وتعالَى:﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾، وَالْمُرَادُ بِآلِ فِرْعَونَ أَتْبَاعُهُ الذِينَ اتَّبَعُوهُ علَى الشِّرْكِ والكُفْرِ، هؤُلاءِ يُعْرَضُونَ علَى النَّارِ أَوَّلَ النَّهَارِ مَرَّةً وَءَاخِرَ النَّهَارِ مَرَّةً، فَيَمْتَلِؤُونَ رُعْبًا وَفَزَعًا وَخَوْفًا، وَهَذَا العَرْضُ لَيْسَ فِي الآخِرَةِ إِنَّمَا قَبْلَ قِيامِ السَّاعَةِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الآيةِ، وليسَ قَبْلَ الموتِ كمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ في مُدَّةِ القَبْرِ في البَرْزَخِ، وَهِىَ الْمُدَّةُ مَا بَيْنَ الموتِ وَالبَعْثِ.

إِخْوَانِي، رَوَى التِّرمِذِىُّ عن رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ لِأُناسٍ: أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الموتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى القَبْرِ يَوْمٌ إِلَّا تَكَلَّمَ فِيهِ فَيَقَولُ: أَنَا بَيْتُ الغُرْبَةِ، وَأَنَا بَيْتُ الوَحْدَةِ، وأَنَا بَيْتُ التُّرابِ، وأنا بَيْتُ الدُّودِ، فَإِذَا دُفِنَ العَبْدُ المؤمِنُ -أَىِ الكَامِل- قَالَ لَهُ القَبْرُ: مَرْحَبًا وَأَهْلا، أَمَا إِنْ كُنْتَ لَأَحَبَّ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَىَّ، فإِذْ وُلِّيْتُكَ اليَوْمَ وَصِرْتَ إِلَىَّ فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ، قَالَ فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ. وَإِذَا دُفِنَ العَبْدُ الفَاجِرُ أوِ الكافرُ قَالَ لهُ القبرُ: لا مَرْحَبًا وَلا أَهْلا، أَمَا إِنْ كُنْتَ لَأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَىَّ، فَإِذْ وُلِّيْتُكَ اليَوْمَ وَصِرْتَ إِليَّ فَسَتَرَى صَنِيعيَ بِكَ، قالَ فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَلْتَقِيَ عليهِ وَتَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ، قال -أَيِ الرَّاوِي- قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم بِأَصَابِعِهِ، فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ، قَالَ وَيُقَيِّضُ اللهُ لَهُ سَبْعِينَ تِنِّينًا، لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ فِي الأَرْضِ، مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا مَا بَقِيَتِ الدُّنيا، فَيَنْهَشْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ حَتَّى يُفْضَى بِهِ إلَى الحِسَابِ اﻫ.

فمِنْ عذابِ القبرِ إخوةَ الإيمانِ ضَغْطَةُ القبرِ، يَقْتَرِبُ حائِطَا القَبْرِ مِنْ جَانِبَيْهِ حتَّى تَتَدَاخَلَ أَضْلاعُه، أَضْلاعُهُ الّتِى عَنْ جَانِـبِهِ الأَيْمَنِ تتَدَاخَلُ مَعَ أضلاعِهِ التِى عَنِ الجَانِبِ الأَيْسَرِ.

أَحِبَّتِي، مَنْ ذَا الّذِى يَحْتَمِلُ أَلَمَ الْتِوَاءٍ فِي أَحَدِ أَصَابِعِهِ؟ مَنْ ذَا الَّذِى يَحْتَمِلُ أَلَمَ كَسْرٍ فِي اليَدِ؟ فَأَيُّ أَلَمٍ ذَاكَ حِينَ تَتَدَاخَلُ الأَضْلاعُ بعضُهَا بِبَعْضٍ؟ اللهمَّ أَجِرْنَا مِنْ عَذَابِ القَبْرِ وَضَغْطَتِهِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.

وَمِنْ عذابِ القَبْرِ أَيضًا الانزِعاجُ مِنْ ظُلْمَةِ القَبْرِ وَوَحْشَتِهِ، وَمِنْهُ أيضًا ضَرْبُ مُنْكَرٍ وَنَكيرٍ لِلكافِرِ بِمطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَذَابَ، يُضْرَبُ ضَرْبَةً فَيَصِيحُ مِنَ الأَلَمِ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ، إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، أَىْ إِلّا الإِنْسَ وَالْجِنَّ.

ومِنْ عذابِ القبرِ أيضًا تَسليطُ الأفَاعِي وَالعَقَارِبِ وحَشَراتِ الأرضِ عليهِ، فَتَنْهَشُ وتَأْكُلُ مِنْ جَسَدِه، فَفِى الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ يُقالُ لِلفاجِرِ: اُرْقُدْ مَنْهُوشًا، فَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا وَلَهَا فِي جَسَدِهِ نَصِيب اﻫ

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنهُ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: وَيُسَلَّطُ عليهِ عَقَارِبُ وثَعابِينُ، لَوْ نَفَخَ أَحَدُهُم فِي الدُّنيا مَا أَنْبَتَتْ شَيئًا، تَنْهَشُهُ وتُؤْمَرُ الأرضُ فَتُضَمُّ، حتى تختلفَ أضلاعُه اﻫ

إخوة الإيمان، رَوَى أبو داودَ في سُنَنِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلَّمَ فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إلَى القَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم وجَلَسْنَا حَوْلَهُ، كأَنَّمَا علَى رُؤوسِنَا الطَّيْرُ، وفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ في الأرضِ، فرَفَعَ رَأْسَهُ فقالَ: اِسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ عَذابِ القَبْرِ، اِستعيذُوا باللهِ من عذابِ القبرِ مَرَّتَيْنِ أَو ثَلاثًا اﻫ، وَفِي صحيحِ مُسلمٍ عن أبِى هريرةَ أنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عُوذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ، عُوذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، عُوذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ المسيحِ الدَّجَّالِ، عُوذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ اﻫ فَخَافُوا اللهَ عبادَ اللهِ وَاتَّقُوهُ، وَاسْأَلُوا اللهَ بِخَوْفٍ وَتَضَرُّعٍ فِي جَوفِ الليلِ وَفِي سُجُودِكم وَعِنْدَ السَّحَرِ السَّلامَةَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.

فَواعَجَبًا مِمَّنْ أَيقَنَ عذابَ القَبْرِ وءَامَنَ بهِ، كيفَ يَجْرُؤُ علَى أَنْ يَعْصِيَ اللهَ خَالِقَهُ، وَيُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِسَخَطِ اللهِ وَعِقَابِهِ.

اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عذابِ النَّارِ، وَنَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقوبَتِكَ.

هذَا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم.

< Previous Post

الحث على بر الوالدين والتحذير من العقوق | خطبة الجمعة

Next Post >

بيان معنى الشهادتين

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map