أطلّت علينا الهجرة النبوية الشريفة بظلالها الوارفة، وهي تتألق بتباشير الفجر، وملامح الفَرَج، تنبعث من تاريخ يفيض بالعزة ويشمخ بالجلال.

يقول الله تبارك وتعالى:

{ إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } التوبة:40

الهجرة النبوية وأسبابها ونتائجها

      لمّـا اشتد أذى المشركين في مكة المكرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وحين ظهر الإسلام وانتشر في المدينة المنورة، شكا أصحاب رسول الله ما وجدوه من الأذى، واستأذنوه في الهجرة إلى المدينة، فأذن، فهاجر إليها كل من يحافظ على دينه، فخرجوا أَفواجًا، فآواهم الأنصار وواسَوهم، ولم يبق بمكة إلا المصطفى رسول الله، والصديق أبو بكر، والمرتضى عليّ أو محبوس أو مريض.

      ولما رأت قريشٌ خروجَ من أسلم إلى المدينة، خافت خروجَ المصطفى، وعلمت أنه قد صار للمسلمين مَنَعَةٌ وقوة، فاجتمعوا في دار الندوة للتشاور في أمره، وحَضَرَهُمْ إبليس في صورة شيخ نجدي، فأشار كلٌّ برأي، وإبليس يرده، إلى أن قال أبو جهل: نأخذ من كل قبيلة من قريش غلامًا بسيف فيضربونه ضربة رجل واحد فيتفرقُ دمُه في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على حربِ الكل،

      فقال النجدي: هذا هو الرأي، فتفرقوا عليه، وأخبر جبريلُ النبيَّ بذلك، فلم ينم في مضَجَعه تلك الليلة، فلما كانت عتمةٌ من الليل، اجتمع المشركون على بابه يرصدونه حتى ينام، فيَثِبُون عليه، فقال لعلي: نَمْ على فراشي وتَسجَّ بِبُردِي فلن يخلُصَ إليك شيء تكرهُهُ، وأخذ حَفْنةَ ترابٍ وخرجَ عليهم، فلم يروه، فجعل ينثُرُ ذلك الترابَ على رءوسهم، وهو يتلو سورةَ يس إلى قولِه تعالى:{ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } يس:9

      جاء المصطفى إلى بيت الصديق ظهرًا فقال: إن الله أذِنَ لي في الهجرة، فقال: الصحبةَ، فتجهزا، قالت عائشة: وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً ( طعام المسافر) فِي جِرَابٍ (وعاء من جلد)، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ (النطاق: ثوب تشد بها المرأة وسطها)، فخرجا ليلاً، فترافقا إلى غار في جبل ثور، فدخلاه،

      وخيّم العنكبوت على بابه وباضت حمامتان، وطلبت قريشٌ المصطفى أشدَّ الطلب، وجعلت لمن دل عليه مائةَ ناقة، وأتَوْا إلى الغار فوجدوه كذلك، حتى قَالَ أبو بكر: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا، فَقَالَ رسول الله: مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا. معناه: ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد.

      وفي الغار ثقوب فجعل الصدّيق رضي الله عنه يسدّ الثقوب بثوبه وبقي ثقب فسدّه برجله ليحمي حبيبه وقرّة عينه محمّدا، فلدغتْه الأفعى برجله فما حرّكها وما أزاحها، فمن شدّة ألَمه بكى رضي الله عنه فنَزلت دمعته وأيقظت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقام صلّى الله عليه وسلّم ومسح له بريقه الطاهر فشفي بإذن الله تعالى.

     وبعد ثلاث ليال ارتحلا، فمرّا على خيمة أم مَعبَد، فرأى النبـيُّ عندها شاة، قال: هل بها من لبن، قالت: هي أجهد من ذلك، فمسح النبيُّ ظهرها وضرعها، وسمى ودعا، فحَلبَ في إناء فملأه وسقى من معه، ثم حلب فيه ثانيا، وتركه عندها مملوءًا، وسافر بعد أن بايعها على الإسلام، واستمرت تلك البركة فيها.

     روى البيهقي في دلائل النبوة: خرج رسول الله ليلا فتبعه أبو بكر، فجعل يمشي مرة أمامه، ومرة خلفه، ومرة عن يمينه، ومرة عن يساره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف هذا من فعلك ؟» قال: يا رسول الله، أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك، لا آمن عليك.

       كان المهاجرون والأنصار يفدون إلى قُباء، وهو موضع بئر على ثلاثة أميال من المدينة، ينتظرون قدوم رسول الله، فلما كان يومُ قدومه، نزلها بالسعد والهناء في يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وجاء المسلمون يسلمون عليه.

      وأقام المصطفى في قُباءٍ مدة، وأسس فيها المسجد الذي قال الله فيه: { لَمَسْجدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } التوبة:108

      ولحقه علي بن أبي طالب، وكان تأخر ثلاث ليال، لرد الودائع التي كانت عند المصطفى صلى الله عليه وسلم لأهلها، ثم طلع رسول الله من بين أظهرهم، فركب راحلته ومشوا حولها، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها، ثم ارتحل المصطفى قاصدًا المدينة، فأتاه بعضهم فأخذوا خطام ناقته، فقال: ”خلوا سبيلها فإنها مأمورة“ فخلوها حتى دانت دار بني مالك بن النجار، فبركت ناقته المأمورة، أي التي أمرها الله تعالى أن تبرك بموضع مسجده عليه السلام،

      فلما بركت وهو عليها لم ينـزل، وثبت، فسارت غير بعيد، والمصطفى واضعٌ لها زمامها لا يُثنيها به، ثم التفتتْ خلفها، فرجعت إلى مبركها الأول فبركت به، ثم تحلحلت ووضعت جِرانـها، فنـزل عنها، وذلك في وقت الظهيرة، فاحتمل أبو أيوبَ من بني النجار رحله، وأدخل ناقته داره، ونزل عنده لكونه من أخوال عبد المطلب، فأقام بدار أبي أيوبَ حتى ابتنى مسجده الواسع بعد شرائه أرضه، ثم بنى حوله مساكن لأهله، وبنى أصحابه من المهاجرين والأنصار مساكنهم حواليه في كنفه.

      لـمّا هاجر المصطفى، طابت به طيبة، بعدما كانت ردية، وأضاء كل ما كان منها أسود، منذ دخلها، وسرى السرور إلى القلوب بحلوله بها، وكانت من أوبإ الأراضي، فزال عنها وباؤها ببركة هذا النبي العظيم الجاه، ودعا اللهَ قائلا: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَحَوِّل حُمَّاهَا إِلَىَ الْجُحْفَةِ. وقال: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا، وَاجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ.
وقال: عَلَى أَنْقَابِ المَدِيْنَةِ مَلائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلا الدَّجَّالُ.

دور الهجرة النبوية في حماية الدعوة

      إن الماضي صفحات والتاريخ عبر وعظات، وفي صفحات الماضي وعبر التاريخ المجيد السراج الذي يكشف للمستبصر الرؤية ويهديه سواء السبيل، وهجرة الرسول المباركة هي واحدة من تلك العبر والعظات.

     لقد كانت الهجرة النبوية إيذانا بأن صولة الباطل مهما عظمت وقوته مهما بلغت فمصيرها الزوال، ونهايتها الى الفشل والبوار وإيذانا ان الحق لا بد له من يوم يحطم فيه الاغلال وتعلوا فيه رأيته وترتفع كلمته.

     لقد جائت هجرة الرسول بأمر من الله عز وجل لتعلن نهاية عهد الاستبداد وبداية فجر مشرق وعهد مجيد من هناك من يثرب انبثق نور الدعوة المحمدية قوياً وضاء فبدد الظلمات وجاز ما اعترضه من عقبات.

الهجرة النبوية كانت تنفيذا لأمر الله عز وجل

     لم تكن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم هرباً من المشركين ولم تكن هجرته حبا في الشهرة والجاه والسلطان ولم تكن هجرته التماسا للراحة والسكون، وانما كانت تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى، وبعده خرج الفاروق عمر بن الخطاب وكانت لقصة خروجه رضي الله عنه العِبَر الكثيرة.

     وعندما وصل الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم مع صاحبه الصديق أبي بكر إلى يثرب خرج المؤمنون من أهلها مرحبين بقدوم النبي الكريم وصاحبه الوفي واستبشروا بقدومهما وقدوم الاصحاب كل خير وضرب هؤلاء مع اخوانهم المهاجرين أروع الامثلة في التضحية والاخوة والتحابب والتباذل في الله.

      لقد جمعهم الاسلام، ووحدتهم العقيدة، وألف الله بين قلوبهم حتى صاروا على قلب رجل واحد لا يفرق بينهم طمع ولا دنيا، ولا يباعد بينهم حسد ولا ضغينة، مثلهم كمثل البنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا بهم إنه على كل شيء قدير

الهجرة النبوية دروس وعبر

      أطلّت هذه الهجرة النبوية المباركة بكل ما تحمل من عبر وعظات ودروس، فجعلتنا نقف ونتدبر فيما يرويه التاريخ لنا عن الدعوة المحمدية وصاحبها الذي أمره ربه عز وجل أن يبث كلمة لا إله إلا الله، وينشر معاني التوحيد، ويبطل مظاهر الإشراك، ويحارب عادات الكفر والإلحاد.

      وقد سعى المشركون بكل عزمهم وأموالهم أن يصدوا الناس عن دين الحق، وأن يوقفوا مسيرة الإيمان والتوحيد، ولكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح وانتصر الحق وارتفع نداء التكبير.

      وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى دين الله كله ثقة بالله عز وجل وتوكلٌ عليه. وها هو بعد ذهابه إلى الطائف لدعوة الناس إلى الهدى وتعرضه لأقبح رد منهم يأتيه جبريل ويقول له:
”إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت“.

فيقول الحبيب المصطفى: ”بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا“.

  1. وقد تحمل نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم الأذى الشديد من المشركين وهو صابر ثابت يدعو إلى دين الله، وكذلك تعرض أتباعه وأصحابه لصنوف شتى من التنكيل والاضطهاد وهم ثابتون على ما هم عليه من الإيمان، رافضون أن يرجعوا إلى عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر شيئا.
  2. وجاءت الهجرة النبوية المباركة لتعلن نهاية عهد طويل من الاستبداد والتنكيل والاضطهاد، ولتؤكد بأن الحق لا بد له من يوم تعلو فيه رايته، وترتفع كلمته، وينتصر رجاله بإذن الله.
  3. كما أن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة أرست معالم عهدين: العهد المكي والعهد المدني.
    • فأما العهد المكي فهو عهد تحمل فيه النبي الأعظم أعباء الدعوة إلى الله، صابراً محتسباً مُجاهراً بالحق، دون أن يؤذن له بقتال من عاداه وءاذاه ورفَعَ سيف الاضطهاد والتنكيل بأصحابه المستضعفين المتشبثين بدينهم وإيمانهم.
      لقد صبر صلى الله عليه وسلم على اللَّأْواء والبلواء والضراء، كما صبر أصحابه وتحملوا في سبيل الله، وهم يعلمون أن المؤمن إذا أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له.
      دعا النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إلى العدل والإحسان ومكارم الأخلاق ونهى عن المنكر والبغي. فهو أفضل الأوّلين والآخرين على الإطلاق، هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم الذي عرّفه قومه قبل نزول الوحي بلقب الأمين فلم يكن سارقًا ولم يكن رذيلاً ولم يكن متعلّقَ القلب بالنساء، وكان يدور في المواسم التي يجتمع فيها الناس ويقول: ”أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا“. وكان يتبعه رجل من المشركين ويقول: ”أيها الناس لا تصدّقوه“.

      صبر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم على إيذاء المشركين. أليس حينما كان يصلّي عند الكعبة رمى على ظهره عقبة بن أبي معيط سلى جزور؟ وذلك المشرك أبو جهل أراد أن يخنقه بثوبه فمنعه أبو بكر وقال: ”أتقتلون رجلاً يقول ربيَ الله ؟“.

       أليس كُسرت رباعيّتُه من أسنانه؟ أليس ضُرب بالحجارة عليه الصلاة والسلام؟ ولكن هذا النبي المؤيّد بنصر الله المبين ثبت كما أمره الله، فما من نبي يتخلّى عن الدعوة إلى الله لشدّة الإيذاء، الكفار تعجّبوا لهذا الصبر فقالوا لأبي طالب: ”يا أبا طالب ماذا يريد ابنُ أخيك؟ إن كان يريد جاهًا أعطيناه فلن نمضي أمرًا إلا بعد مشورته، وإن كان يريد مالاً جمعنا له المال حتى يصير أغنانا، وإن كان يريد الملك توّجناه علينا“

      ولكن النبيّ الذي يوحَى إليه أجاب عمَّه بقوله: ”والله يا عمّ لو وضعوا الشمس بيميني والقمرَ بشمالي ما تركت هذا الأمر حتى يظهرَه الله أو أهلك دونَه“.

      قصيدة في الهجرة النبوية

      هـاديـنـا والصديــق معـا … فــي الـغـار ثــقــوبـا وَجَــدَ
      وأبـو بـكـر فـيـهـا وضع … ثـــوبًـــا مـــزّقـــــه إذ وَرَدَ
      ويـسـدّ الباقي من خـوفٍ … بالـرجـل لـكي يـحـمي طـه
      لـدغته الأفعى من جوفٍ … مـا حـــرّكــهـــا ومــا زاح
      فـبـكـى مـن ألَـمٍ أتـعـبَــهُ … والدمعـة أيـقظت المحبـوب
      بالـريـق الطاهـر طيّـبـهُ … وارتاح من الألـم المـكروب

      وحمى الله تعالى حبيبَه بخيط العنكبوت، حمى الله تعالى حبيبه بأضعفِ البيوت وأوهنِ البيوت بيتِ العنكبوت، فأرسل الله حمامةً باضت على فمِ الغار ونسج العنكبوت خيطه.
      قال تعالى:
      {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} التوبة:32

      والمؤمنون في المدينةِ المنوّرة ينتظرونَ حبّا وشوقًا، ينتظرون وصولَ الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فكانوا يتوافدونَ إلى مشارفِ المدينة من ناحية طريقِ مكّة وكان بعضهم يتسلّق الأشجار وينظر إلى بعدٍ علّه يرى أثرًا لقدوم الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، وتمضي الأيام والساعات ويعودون حزينين.

      وذات يومٍ والناسُ في انتظارٍ بلهفٍ وشوقٍ وقد انتصفَ النهارُ واشتدَّ الحرُّ ورجعوا جماعةً بعد جماعة وإذ برَجُلٍ ينادي بأعلى صوته: ها قد جاء من تنتظرون يا أهل المدينة، فتكرّ الجموع عائدة لاستقبال الحبيبِ المحبوب والحبّ يسبقها ولسان حالها يقول:” طلع البدر علينا من ثنيات الوداع“ .

    • وأما العهد المدني، وهي الفترة التي بدأت بوصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، فهو عهد تغيرت فيه الموازين، واشتد ساعد أهل الإيمان، فخاض المؤمنون وأبطال الإسلام الأشاوس الوقائع بكل صدق وإخلاص واندفاع، ومُني فيها أعداء الحق بالهزائم المتتالية.
  4. لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم بحكمته الواسعة وإرشاداته البليغة العظيمة أن يجمع الطاقات المستنيرة بنور الإيمان، ويستعملها للخير ونشر المعرفة النقية، والمبادىء السامية، والمفاهيم الراقية. وكان صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بالتواد والتعاطف والتراحم، وأن يشد بعضهم أزر بعض، كما كان يأمرهم بالخلق الحسن، ويحذرهم من الغلو الذي أهلك من كان قبلهم، وهو الذي قال: ”إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين“.

    فلماذا، والحال هذا، لا يقتبس اليوم أدعياء العمل الإسلامي أصحاب التطرف والغلواء من سيرة صاحب الرسالة؟!، فيتركوا التطرف أولاً، ثم يعملوا على حشد النفوس المؤمنة نحو العمل الصالح وكل ما من شأنه جمع الكلمة وتوحيد الصف، بدل أن يخبطوا خبط عشواء، ويُمعنوا في جسد الأمة تقتيلاً وتخريباً، وفي أوطانهم تفتيتا وشرذمة!!

    ما أحوجنا ونحن نقرأ قصة الهجرة النبوية المباركة أن نفهم دلالاتها وعبرها، ونأخذ منها ما ينير سبيلنا، ويغذي أجيالنا المتعطشة للمعرفة والثقافة الصافية.

    فالمنهج الذي جمع الرسولَ الكريم صلى الله عليه وسلم وصاحبَه الصديق كان معرفةَ الحق وسلوك طريقه فأصبح ”غار ثور“ مدرسة تعلم الصبر وترشد إلى السعادة بدواء ”لا تحزن“، وتُنبىء عن عز الدنيا ورفعة الدين بعقيدة ”إن الله معنا“ هو حافظنا وهو ناصرنا وعليه التكلان.

     هجرتك يا رسول الله درس يسطره التاريخ شمساً منيرة ترشد وتهدي، وعِبراً وحكماً تدل وتسدد. هجرة بأمر الله لنشر الخير الذي أعطاه الله، فسرت في ركب العزيمة، وحملت لواء الدين، وتآخى الناس تحت راية الحب في الله، مهاجرين وأنصارا، ولم تفرقهم الدنيا، بل جمعتهم الآخرة، وكلهم رجاء أن يلقوك فيها، ويحشروا تحت لوائك، ويشربوا من حوضك، وتكون أنت إمامهم فيها كما كنت إمامهم في حياة خرجوا منها مؤمنين موحدين.

     ما أحوجنا في ذكرى الهجرة النبوية المباركة أن نقتدي برسولنا الكريم، ونوحد صفوفنا، ونضاعف جهودنا، ونجمع كلمتنا لمواجهة المخاطر والتحديات، ما أحوجنا أن نسعى نحو الخير، وأن نكون متعاونين في وجه من يريد الشر والفتنة.

قصة الهجرة النبوية كاملة

متى كانت هجرة الرسول عليه السلام ؟

     روى البخاري في الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ. اهـ

      وقد كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام وذلك في يوم الاثنين كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين واستنبئ يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين وخرج مهاجرا من مكة الى المدينة يوم الاثنين وقدم المدينة يوم الاثنين ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين. اهـ

من عجائب الهجرة النبوية ما حصل فيها

     ومن عجائب الهجرة النبوية لما وصلا فم الغار، قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل فلم ير شيئا، ثم دخل رسول الله، وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع، فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه الحيات والأفاعي، وجعلت دموعه تنحدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «يا أبا بكر لا تحزن، إن الله معنا».

       وروى البيهقي في “دلائل النبوة”: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله عز وجل بشجرة، فنبتت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار،وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل، بعصيهم وهراويهم وسيوفهم، حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم بقدر أربعين ذراعاً،
فجعل رجل منهم لينظر في الغار فرأى حمامتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه، فقالوا له ما لك لم تنظر في الغار؟ فقال: رأيت حمامتين بفم الغار، فعلمت أنه ليس فيه أحد .اهـ

      وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجزري أن مقسمًا مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ } الأنفال:30

    قال: تشاورت قريش ليلة بمكة. فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل اقتلوه.

      وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات عليّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا عليًا، ردَّ الله عليهم مكرهم. فقالوا: أين صاحبك هذا؟ فقال: لا أدري.

      فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت. فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال. اهـ

     بعد أن مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غار ثور، ثلاث ليال، ارتحلا، ومعهما عامر بن فهيرة يخدمهما، واستأجرا عبد الله بن أريقط، يدلهما على الطريق، فأخذوا نحو طريق الساحل أسفل من عُسفانَ، والحق سبحانه، شاغل لعدوهم عن اتباع ءاثارهم من تلك الجهة.

قصة سراقة بن مالك ولحاقه بالنبي صلى الله عليه وسلم 

     وبلغ سُراقة بن مالك بن جُعشم الـمُدلـِجي أن سوادًا مرّ بالساحل، فركب فرسه، منتهزًا للفرصة، خفية من قومه، يريد برسول الله صلى الله عليه وسلم فتكًا أي قتلاً ليحصل على ما جعلت قريش لمن رده أو قتله، وهو غير فاتك به لأن الله حماه وعصمه.

     فحث في الطلب حتى أدركهما، فصُرع عن فرسه، فأخرج الأزلام فاستسقم بها فخرج ما يكره، فركب وحثَّ في الطلب، فصار أبو بكر يكثر التلفت، والمصطفى يقرأ ولا يلتفت، فلما قرب منهما قال: ”اللهم اكفناه كيف شئت وبما شئت“.

     ودعا عليه فساخت يدا فرسه إلى بطنها في أرض جَلَدٍ وخرَّ عنها فناداه بالأمان، لحبسه عن لحوقه له، فدعا له، فانطلق فرسه، ووقف المصطفى، حتى جاءه فأخبره ما يريدُ به قومه، وأنهم قد جعلوا فيه الدية، فقال: أخف علينا، فرجع، فوجدهم يلتمسونه، فقال: ارجعوا فقد استبرأت لكم ما ههنا، قال: فخرجتُ وأنا أحبُّ الناس في تحصيلهما ورجعتُ، وأنا أحَبُهم في أن لا يعلمَ بـهما أحد، وفي ذلك يقول مخاطبًا لأبي جهل:

أبا حكمٍ لو كنتَ واللهِ شاهدًا      لأمرِ جَوادي إذ تسيخُ قوائمُهْ
علمتَ ولم تشكُكْ بأنّ محمدًا     رسولٌ ببرهانِ فمَنْ ذا يقاومُهْ
عليكَ بكفِ القومِ عنه فإنني      أرى أمرَه يومًا ستبدُو معالـِمُهْ
بأمرٍ يَوَدُّ الناسُ فيه بأسرِهِمْ      بأنّ جميعَ الناس طُرًّا تُسالـِمُهْ

     ويقال: إن المصطفى كتب له كتابًا بالأمان في عظم أو أَدَم، وأنه وافاه به يوم الفتح فرحب به وأمّنه، ووقع لسراقة هذا عَلَمٌ من أعلام النبوة وهو قول المصطفى: ”كيف بك إذا لبست سِوارَي كسرى“ فلبسهما أيام عمر.

من عجائب الهجرة النبوية : مسح النبي على شاة أم معبد

      بعد ذلك مروا على خيمة أم معبد، واسمها عاتكة بنت خالد الخزاعية، وهي على طريقهم، مختبئة بفناء خيمتها، تسقي المارة من الماء واللبن، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم عندها شاة، قال: ما هذه؟ قالت: ”شاة أضر الجهد بها وما بـها قُوى“ تشتد بها حتى تلحق الغنم ترعى معهم. قال:
”هل بها من لبن“ ؟ قالت: هي أجهد من ذلك. فمسح النبي منها ظهرها وضرعها وسمى ودعا، فحلب ما قد كفاهم وُسعًا أي ما تحتمله طاقتهم من الري.

     وحلب النبي بعد ذلك إناء ءاخر ثانيًا، وترك ذاك الإناء عندها مملوءًا، وسافر بعد أن بايعها على الإسلام واستمرت تلك البركة فيها.

      [وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة مهاجراً إلى المدينة هو وأبو بكر ومولى أبي بكر وهو عامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله بن أريقط، مروا على خيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزة جلدة تسقى وتطعم بفناء الكعبة، فسألوها لحما وتمرا ليشتروه، فلم يصيبوا عندها شيئا، وكان القوم مرملين، وفي كسر الخيمة شاة،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم معبد هل بها من لبن قالت: هي أجهد من ذلك، فقال: أتأذنين لي أن أحلبها قالت: نعم إن رأيت بها حلبا، فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا لها في شاتها، فدرت، واجترت، فدعا بإناء فحلب فيه حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت ثم سقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم، ثم حلب فيه ثانيا ثم غادره عندها وبايعها وارتحلوا عنها.

      وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عندها هو وأبو بكر ردفان مخرجه إلى المدينة حين خرج فأرسلت إليه شاة فرأى فيها بصرة من لبن فقربها فنظر إلى ضرعها فقال: والله إن بهذه الشاة للبنا، وهي جالسة تحت سقيفتها، فقالت: اردد الشاة، فقال: لا ولكن ابعثي شاة ليس فيها لبن، فبعثت إليه بعناق جذعة، فقبلها.

      وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليها فأرسلت إليه شاة تهديها له فأبى أن يقبلها فثقل ذلك عليها فقالوا إنما ردها لأنه رأى بها لبنا فأرسلت إليه بجذعة فأخذها.
وذكر الواقدي في قصة أم معبد قصة الشاة التي مسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها وذكر أنها عاشت إلى عام الرمادة، قالت: فكنا نحلبها صبوحا وغبوقا وما في الأرض لبن قليل ولا كثير.]

     ثم لما رحلوا جاء زوجها أكثم بن الجون يسوق غنمًا أعنزًا عجافًا، فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين ولا حلوب في البيت؟ قالت: مر بنا رجل مبارك من حاله كذا. قال: صفيه؟

وصف أم معبد لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

      قالت: ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ أَبْلَجُ الْوَجْهِ حَسَنُ الْخُلُقِ لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَةٌ وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صعْلَةٌ وَسِيمٌ قَسِيمٌ فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ وَفِي صوَتِهِ صَحَلٌ وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ.

      وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ أَحْوَرُ أَكْحَلُ أَزَجّ أَقْرَنُ شَدِيدُ سَوَادِ الشّعْرِ إذَا صَمَتَ عَلاهُ الْوَقَارُ وَإِذَا تَكَلّمَ عَلاهُ الْبَهَاءُ أَجْمَلُ النّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَحْسَنُهُ وَأَحْلاهُ مِنْ قَرِيبٍ. حُلْوُ الْمَنْطِقِ. فصل لا نَزْرٌ ولا هَذَرٌ كَأَنّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَنحدرنَ، رَبْعَةٌ لا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ ولا تَشْنَؤُهُ مِنْ طُولٍ.
غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ فَهُوَ أَنْضَرُ الثلاثَةِ مَنْظَرًا، وَأَحْسَنُهُمْ قَدًا. لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفّونَ بِهِ. إن قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ. وَإن أَمَرَ تَبَادَرُوا إلَى أَمْرِهِ مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ.
لا عَابِسٌ وَلا مُفْنِدٌ.

       قولها ( ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ ) أي ظاهر الجمال، ( أَبْلَجُ الْوَجْهِ ) أي مشرق الوجه مضيئه، ( حَسَنُ الْخُلُقِ ) ( لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَة ) الثجلة عِظَمُ البطن مع استرخاء أسفله ( وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صَعْلَة ) أي صغر الرأس ( وَسِيمٌ ) المشهور بالحسن كأنه صار الحسن له سمة ( قَسِيمٌ ) الحسن قسمة الوجه ،
أي كل موضع منه أخذ قسماً من الجمال ( فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ ) اشتد سوادها وبياضها واتسعت ( وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ ) أي طول ( وَفِي صوَتِهِ صَحَلٌ ) أي شبه البُحة ( وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ ) أي طول العنق (وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ ) ( أَحْوَرُ ) اشتد بياض بياض عينيه مع سواد سوادهما ( أَكْحَلُ ) أي ذو كُحْلٍ،

      اسودت أجفانه خلقة ( أَزَجّ أَقْرَنُ) أَي مَقْرُون الحاجبين ( شَدِيدُ سَوَادِ الشّعْرِ ) ( إذَا صَمَتَ عَلاهُ الْوَقَارُ ) أي الرزانة والحِلْم ( وَإِذَا تَكَلّمَ عَلاهُ الْبَهَاءُ) من الحسن ، الجلال والعظمة ( أَجْمَلُ النّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَحْسَنُهُ وَأَحْلاهُ مِنْ قَرِيبٍ حُلْوُ الْمَنْطِقِ ) ( فصْلٌ لا نَزْرٌ وَلا هَذرٌ) أي لا قليل ولا كثير أي ليس بقليل فيدل على عِيِّ ولا كثير فاسد ( كَأَنّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَنحدرنَ ) أي كلامه محكم بليغ (رَبْعَةٌ ) (لا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ ) أي لا تزدريه لقصره فتجاوزه الى غيره بل تهابه وتقبله، (وَلا تَشْنَؤُهُ مِنْ طُولٍ ) أي لا يُبْغَضُ لفرط طوله ( غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ فَهُوَ أَنْضَرُ الثّلاثَةِ مَنْظَرًا ) (وَأَحْسَنُهُمْ قَدًا )أي قامة ( لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفّونَ بِهِ. إذَا قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ. وَاذَا أَمَرَ تَبَادَرُوا إلَى أَمْرِهِ ) (مَحْفُودٌ) أي مخدوم ( مَحْشُودٌ ) الذي يجتمع الناس حوله ( لا عَابِسٌ ) ( وَلا مُفْنِدٌ ) المنسوب الى الجهل وقلة العقل، المـُفْنِد أي لا فائدة في كلامه لكبرٍ أصابه .

    قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره وقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت لذلك سبيلاً.

     وأصبح صوت بمكة عال يسمعون الصوت ولا يرون صاحبه يقول:

جزى الله ربُّ الناس خيرَ جزائه    رفيـقيـن حلا خيمتَي أم مـعبـدِ
هـمـا نـزلا بالـهـدى واغتـدوا بـه    فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فـيــا لـقصي ما زوى الله عـنـكـم    به من فعال لا يـجارى وسؤدد
لـيـهن بـني كـعـب مكان فتـاتـهم     ومـقـعدها للمؤمنـيـن بـمـرصدِ
سـلوا أختـكم عـن شاتـها وإنـائـها    فـإنـكـم إن تـسألوا الشاة تـشهـد
دعــاهـا بـشـاةٍ حـائـلٍ فـتـحـلبــت    لـه بـصريحٍ ضرةُ الـشـاة مزبد

      قالت أسماء: فلما سمعناه عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن وجهه إلى المدينة.

– لما ارتحل المصطفى قاصدًا المدينة أتاه عتبان بن مالك في رجال من بني سالم فأخذوا خطام ناقته فقالوا: أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة فقال: ” خلوا سبيلها فإنها مأمورة “ فخلوها حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة في رجال فقالوا كالأول وأعاد مثله، حتى إذا وازت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة في رجال فقالوا مثله وأعاد مثله،

     حتى إذا مرت بدار عدي بن النجار وهم أخواله اعترضه سليط بن قيس في رجال فقالوا: هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والمنعة قال: ” خلوا سبيلها فإنها مأمورة “ حتى دانت دار بني مالك بن النجار بركت ناقته المأمورة أي التي أمرها الله تعالى أن تبرك بموضع المسجد أي مسجده عليه السلام وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار في حجر معاذ بن عفراء،

      فلما بركت وهو عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد والمصطفى واضعٌ لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها الأول فبركت به ثم تحلحلت ووضعت جرانها فنزل عنها وذلك في وقت الظهيرة أي الهاجرة، فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد من بني النجار رحله وأدخل ناقته داره ونزل عنده لكونه من أخوال عبد المطلب ولما سألوه النزول عليهم قال: ” المرء مع رحله“ وخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدفوف ويقلن:

نـحـن جـوارٍ مـن بـنـي الـنـجـار *** يـا حـبـذا مـحـمـدٌ مـن جـار

     فخرج إليهم رسول الله فقال: ”أتحبونني“، قالوا: إي والله، قال: ”وأنا والله أحبكم“ ثلاثًا،

      قال زيد بن ثابت: وأول هدية دخلت بها أنا قصعة مثرود فيها خبز وسمن ولبن فقلت: أرسلت بها أمي فقال: ”بارك الله فيك“ ودعا صحبه فأكلوا فلم أرم الباب حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة بثريد وعراق لحم وما كان من ليلة إلا وعلى باب المصطفى الثلاثة والأربعة يحملون طعامًا كثيرًا ثم صار سعد بن عبادة يرسل إليه كل يوم قصعة،

      فأقام بدار أبي أيوب حتى ابتنى مسجده الرحيب أي الواسع بعد شرائه أرضه من قسيم مالكيه، وذلك أن المصطفى سأل عن المربد لمن هو فقال معاذ بن عفراء: لسهل وسهيل ابني عمرو يتيمان لي وأُرضيهما فيه، وقال الدمياطي: إن المصطفى ساومهما فيه ليتخذه مسجدًا فقالا: هبة لك، فأبى حتى ابتاعه بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما إياها، ثم أمر بالنخل الذي فيه والغرقد فقطع، وباللبن فضرب،

      وكان فيه قبور جاهلية فنبشت وغيبت العظام وسويت الحفر، وأسس المسجد، وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وفي ذينك الجانبين مثل ذلك فهو مربع، وقيل كان أقل من مائة، وجعل الأساس نحو ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة، ثم بنوه باللبن، وجعل رسول الله ينقل معهم الحجارة ويقول: ”اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة“ وقال قائل:

لـئـن قـعـدنـا والـنـبـي يـعـمـل *** لـذاك مـنـا عـمـل مـضلـل

     وقال عمار بن ياسر: قتلوني يا رسول الله، حمّلوني فوق ما يتحملون، فقال:”إنما تقتلك الفئة الباغية“ فقتل بصفين.

     وجعل قبلته لبيت المقدس وجعل له ثلاثة أبوابٍ بابًا في مؤخره وبابًا يقال له باب الرحمة وهو الذي يسمى باب عاتكة والباب الثالث الذي يدخل منه المصطفى وهو الذي يلي ءال عثمان، وجعل عمده الجذوع وسقفه الجريد وبنى بيوته بجبنه باللبن. ومن الفوائد الحسنة ما ذكره مغلطاي أن موضع المسجد كان ابتاعه تُبَّعٌ للمصطفى قبل مبعثه بألف سنة وأنه لم يزل على ملكه من ذلك العهد.

     ثم إنه بنى حوله منازل أي مساكن لأهله أي نسائه ومواليه ومن يليه. وبعث زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه وسودة زوجته وأسامة بن زيد وأمه أم أيمن، وجلس أبو العاص ابن الربيع مع بنته زينب، وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر وفيهم عائشة فقدموا المدينة فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان، كل ذلك وهو في بيت أبي أيوب. وكان أصحابه من المهاجرين والأنصار يبنون مساكنهم حواليه في ظله أي في كنفه، وإن من الأنصار من ترك مسكنه البعيد وسكن بقربه.

-أخرج البيهقي في دلائل النبوة، باب ما جاء في المهاجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم التي أحيا الله تعالى بدعائها ولدها بعد ما مات: عن أنس، قال: عدنا شابا من الأنصار، وعنده أم له عجوز عمياء، قال: فما برحنا أن فاض، يعني: مات، ومددنا على وجهه الثوب، وقلنا لأمه: يا هذه احتسبي مصابك عند الله، قالت: « أمات ابني ؟» قلت: نعم، قالت: « اللهم إن كنت تعلم أني هاجرت إليك وإلى نبيك، رجاء أن تعينني عند كل شديدة، فلا تحمل عليّ هذه المصيبة اليوم».

     قال أنس: فوالله ما برحت حتى كشف الثوب عن وجهه وطعم وطعمنا معه. اهـ وأخرجه ابن عدي وابن أبي الدنيا وأبو نعيم.

  -روى ابن سعد عن عثمان بن القاسم أنه قال: لما هاجرت أم أيمن، (من مكة إلى المدينة) أمست بالمنصرف ودون الروحاء، فعطشت، وليس معها ماء؛ وهي صائمة، فأجهدها العطش، فدلي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض، فأخذته، فشربته حتى رويت. فكانت تقول: ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر، فما عطشت.

      وأخرجه ابن السكن من طريق هشام بن حسان عن عثمان بنحوه وقال في روايته: خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد. وقال فيه: فلما غابت الشمس إذ أنا بإناء معلق عند رأسي، وقالت فيه: ولقد كنت بعد ذلك أصوم في اليوم الحار ثم أطوف في الشمس كي أعطش فما عطشت بعد. اهـ

      وفي بعض الروايات: فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسًا على رأسها، فرفعته، فإذا دلو، برشاء أبيض معلق، فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها. اهـ

– روى مسلم في الصحيح، باب الدَّليل على أنَّ قاتل نفسِه لا يكفَّر: أَنَّ الطُّفَيْلَ بنَ عَمْروٍ الدَّوسِيَّ هَاجَرَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إِلَى المَدِينَةِ، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا المَدِيْنَةَ فَمَرِضَ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْروٍ فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ،
وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ. فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ).

      قوله: (فَاجْتَوَوُا المَدِيْنَةَ) أي كرهوا المقام بها لضجر ونوع من سقم. قال أبو عبيد والجوهريُّ وغيرهما: اجتويت البلد إذا كرهت المقام به، وإن كنت في نعمة.

      وقوله: (فَأَخَذَ مَشَاقِصَ) وهي جمع مشقص، هو سهم فيه نصل عريض. وأمَّا البراجم فهي مفاصل الأصابع، واحدتها: برجمة.

      وقوله: (فَشَخَبَتْ يَدَاهُ) أي: سال دمهما.
أمَّا أحكام الحديث: ففيه حجَّة لقاعدة عظيمة لأهل السُّنَّة أنَّ من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها، ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يُقطع له بالنَّار بل هو في حكم المشيئة.

إخوة الإيمان والإسلام:

     إن دار الفتوى في أستراليا تذكركم بأنّ الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر المبين وجعل لهم من الشدّة فرجًا ومن العسر يسرا ومن الضيق سعة، وأنّ الدروس المستفادة من الهجرة النبوية كثيرة ومن جملتها ضرورة الصبر على الشدائد والبلايا وكافّة أنواع الظلم والاستبداد، والصمود في وجه الباطل، والوقوف إلى جانب الحقِّ في شجاعة وحزم وعزم، وأنّ بهجتنا بهذه الذكرى العظيمة في الظروف الحالية التي تمرّ بها الأمّة تبعثنا على مضاعفة الجهد في سبيل نشر دين الله، تبعثنا على مضاعفة الجهد في سبيل إعلاء كلمة لا إله إلا الله محمّد رسول الله بالتعلّم والتعليم.

اللهمّ أعد علينا هذه الذكرى بالأمن والأمان يا ربّ العالمين.

< Previous Post

1443 عام هجري سعيد

Next Post >

الهجرة النبوية الى المدينة المنورة أسبابها ونتائجها والدروس المستفادة منها

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map