Wed, 9th Oct, 2024 /
6 Rabī ath-Thānī , 1446
الأربعاء ٠٩ , أكتوبر , ٢٠٢٤ / 6 رَبِيع ٱلثَّانِي , 1446

 رجوع موسى عليه السلام إلى مصر وسماعه كلام الله الذي لا يشبه كلام العالمين واصطفاؤه بالنبوة والرسالة

أقام موسى عليه السلام عند صهره شعيب عليه السلام يرعى له غنمه عشر سنين في أرض مدين، ثم إنه اشتاق لأهله فأراد زيارتهم في بلاد مصر فسار بأهله في ليلة مظلمة باردة ومعه ولداه وغنم قد استفادها في مدة مقامه في مدين، وبينما هو في الطريق في تلك الليلة المظلمة الباردة التي أراد الله تعالى لموسى عليه السلام كرامته وابتداءه فيها بنبوته وكلامه، تاه موسى عليه السلام مع أهله في الطريق حتى لم يكن يدري أين يتوجه ولم يهتد إلى سلوك الدرب المألوف، وكانت زوجته حاملًا، فأخذها الطلق في تلك الليلة المظلمة الباردة التي عمها المطر والرعد والبرق، وأراد موسى عليه السلام أن يشعل نارًا فلم يستطع إلى ذلك سبيلًا، وبينما هو كذلك ءانس وأبصر من جانب الطور نورًا فحسبه نارًا، يقول الله تعالى:{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا  بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}سورة طه، وقال تعالى:{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}سورة القصص.

وتقدم موسى عليه السلام فلما وصل قريبًا من جبل الطور في واد اسمه “طوى” رأى نورًا عظيمًا ممتدًا من عنان السماء إلى شجرة عظيمة خضراء، هناك قيل: هي العوسج، فتحيّر هناك موسى عليه السلام وناداه ربه، قال تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَىإِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًىوَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى*إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}سورة طه، وقال تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}سورة القصص، وقال تعالى:{فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}سورة النمل.

أمر الله تعالى موسى أن يخلع نعليه لينال بقدميه الأرض المباركة، وقال الله تعالى له تسكينًا لقلبه:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىقَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}سورة طه، أي أتحامل عليها وأضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه فترعاه غنمي، ولي فيها حاجات أخرى، فأمره تعالى أن يلقي العصا التي كانت بيمينه، فألقاها عليه السلام فانقلبت حية عظيمة سريعة المشي لها ضخامة هائلة وأنياب عظيمة، فلما رءاها موسى عليه السلام على هذه الحال ولّى مدبرًا ولم يلتفت وناداه ربه سبحانه وتعالى يطمئنه:{يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}سورة القصص، فلما رجع موسى عليه السلام أمره الله تعالى أن يمسكها:{قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}سورة طه، قال تعالى:{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}سورة القصص، وقال تعالى:{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىفَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}سورة طه، فلما وضع عليه السلام يده عليها عادت الحية في يده كما كانت عصا بقدرة الله سبحانه وتعالى.

ثم أمره الله تبارك وتعالى أن يدخل يده في جيبه ثم أمره بإخراجها فإذا هي بيضاء تتلألأ كالقمر بياضًا من غير سوء ومرض أي من غير برص ولا بهق، قال تعالى:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}سورة النمل، وقال تعالى:{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}سورة القصص، أي هاتان المعجزتان وهما العصا واليد حجتان من الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام على صدقه إذا ذهب إلى فرعون وأتباعه الذين عبدوا غير الله سبحانه وتعالى ليدعوهم إلى الله وعدم الإشراك به، ومع سبع ءايات أخر فذلك تسع ءايات يقول الله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}سورة الإسراء.

فائدة: في قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}سورة النساء، أسمع الله تبارك وتعالى نبيه موسى عليه السلام كلامه الذاتي الأزلي الذي ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغة بغير واسطة من ملك غيره، فقد رفع الله تبارك وتعالى الحجاب عن عبده ونبيه موسى عليه السلام فسمع كلام الله الذاتي الذي لا يشبه كلامنا.

أمر الله موسى وهارون بدعوة فرعون وأتباعه إلى الإيمان والإسلام

لما كلم الله سبحانه وتعالى عبده ونبيه موسى عليه السلام وجعله نبيًا ورسولًا أمره أن يذهب إلى فرعون ليدعوه إلى عبادة الله وحده وتوحيده تعالى وترك الكفر والإشراك، وفطلب موسى عليه السلام من ربه أن يبعث معه أخاه هارون ليكون معه في طاعة الله ومعينًا له على تبليغ الرسالة، فاستجاب الله تعالى دعوته، يقول الله تبارك وتعالى حكاية عن موسى عليه السلام:{وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}سورة طه، ويقول تعالى:{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}سورة القصص، أي اجعله معي معينًا وردءًا ووزيرًا يشدُّ ظهري ويقويني ويساعدني على أداء رسالتي إليهم فإنه أفصح مني لسانًا وأبلغ بيانًا، واستجاب الله تعالى لنبيه موسى وقال له تعالى مجيبًا له إلى سؤاله:{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَايَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}سورة القصص. والحاصل أن الله تعالى استجاب لموسى طلبه وأخبره بأنه سيجعل معه أخاه هارون معينًا له ووزيرًا، وطمأنه بأن فرعون وجنده لن يصلوا إليه وإلى أخيه هارون بقتل ولا ينالون منهما، قال تعالى:{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ}سورة الشعراء، وقال تعالى:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي}سورة طه، أي حتى يفهموا عني بسرعة، وما أصابه من بطء خفيف في كلامه لم يمنع عنه البيان.

قال المفسرون: إن فرعون كان قد وضع موسى عليه السلام وهو طفل صغير في حجره، فأخذ موسى بلحية فرعون ومدها بيده فهمّ فرعون بقتله فخافت عليه زوجته “ءاسية” وقالت لفرعون: إنه طفل لا يعقل وسأريك بيان ذلك، قدّم إليه جمرتين ولؤلؤتين فإن اجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل فلما وضعت الجمرتين أمام موسى عليه السلام أخذ موسى جمرة من الجمرتين ووضعها في فمه فأحرقت لسانه وصار فيه عقدة خفيفة من أثر هذه الجمرة ولكن ما تركت هذه الجمرة في لسانه أن يكون كلامه بعد ذلك مع الناس غير مفهم بل كان عليه السلام يتكلم على الصواب، وقد سأل موسى عليه السلام ربه لما نزل عليه الوحي أن يزيل هذه العقدة من لسانه فاستجاب الله له وأذهبها عنه، قال الله تعالى: حكاية عن موسى عليه السلام:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي}سورة طه.

 

 

مواجهة موسى عليه السلام لفرعون وتكذيب فرعون لموسى وعناده

سار موسى عليه السلام بأهله نحو مصر حتى وصلها ليلًا وكان هارون عليه السلام يومئذغائبًا بمصر، فأوحى الله تعالى إليه أن يتلقى أخاه موسى عليه السلام ويخبره أنه قد جعله وزيرًا له ورسولًا معه، وتلقى هارون موسى فلما اجتمعا والتقيا قال موسى لأخيه هارون: إن الله أمرني أن ءاتي فرعون فسألته أن يجعلك معي فانطلق معي إليه، وانطلق موسى وهارون عليهما السلام إلى قصر فرعون ليلًا، وطلب موسى من البواب أن يأذن له بالدخول على الملك أي فرعون، وعندما سأله البواب بقوله: وماذا أقول لفرعون؟ أجابه موسى: قل له جاءك رسول رب العالمين، ففزع البواب من كلام موسى ودخل على فرعون مرعوبًا وقال له: إن بالباب إنسانًا مجنونًا يزعم أنه رسول رب العالمين، فأخذت فرعون رعدة وهيبة وأمر بوابه بإدخاله مع أخيه هارون عليهما السلام، فلما دخل موسى ومعه أخوه هارون على فرعون في قصره دَعَواه إلى عبادة الله وحده لا شريك له في الألوهية والدخول في دين الإسلام وبلّغاه ما ارسلا به، وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته ويتركهم يعبدون الله تعالى وحده ويتفرغون لعبادته، وهنا تكبّر فرعون في نفسه وعتا وطغى وأخذته العزة بالإثم ونظر إلى موسى وهارون بعين الازدراء، وقال لهما: وهل يوجد إله غيري؟

ولما تحقق فرعون من موسى وعلم أنه الذي تربى في بيته وقصره ثم كان من أمره ما كان، قال لموسى: ألم نربك فينا وليدًا ولبثت فينا من عمرك سنين؟ أي أما أنت الذي ربيناه في منزلنا وأحسنّا إليه وأنعمنا عليه مدة من الدهر؟ قال تعالى:{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قال فعلتُها إذًا وأناْ مِنَ الضَّالين* فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}سورة الشعراء.

ومعنى قوله:{وأناْ مِنَ الضَّالين} أي ما كنت أعرف الأحكام الشرعية في ذلك الوقت هذا قبل أن يوحى إليه، ولما ضرب ذلك الكافر لم يكن في ذلك الوقت نبيًا.

وأخذ فرعون يجادل موسى عليه السلام وجحد وجود الله الخالق الصانع وزعم أنه هو وحده الإله، يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عما جرى بين نبيه موسى عليه السلام وفرعون من

الجدال والمناظرة:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ*قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}سورة الشعراء.

أظهر فرعون كل عناد وتكبر بالذي جاءه وبلغه إياه موسى عليه السلام مع الحجج القوية الباهرة، ومع هذا كله لم يستفق من رقدته ولم يتراجع عن ضلالاته بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه مع ما في كلام موسى عليه السلام له من الحجج والبراهين الساطعة النيرة يقول الله تعالى في فرعون وفساده: {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} سورة النازعات، وقال تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}سورة القصص، ثم قال فرعون لمن حوله من أمرائه ووزرائه على سبيل التهكم ألا تستمعون لكلامه، قال تعالى:{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ}فأجابه موسى:{قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}سورة الشعراء.

بعد أن قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه الواهية ولم يبق له إلا العناد والتكبر عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته وجبروته، يقول الله تعالى حكاية عنه:{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ}سورة الشعراء.

لذلك خافه فرعون ووثب فزعًا، ثم أدخل موسى عليه السلام يده البيضاء في جيبه وأخرجها فإذا هي بيضاء كالثلج لها نور يتلألأ ثم ردّها فعادت كما كانت بقدرة الله ومشيئته.

وهاتان المعجزتان هما البرهانان اللذان أيد الله تبارك وتعالى بهما نبيّه موسى عليه السلام لما أرسله إلى فرعون وأتباعه وهما معجزتان أبهرتا العقول والأبصار، فحين ألقى موسى عليه السلام عصاه أمام فرعون إذا هي ثعبان مبين أي عظيم الشكل في الضخامة والهول والمنظر الفظيع الباهر، حتى قيل إن فرعون لما شاهد معجزة العصا وعاينها أخذه خوف عظيم انعكس أثر ذلك على صحته وحالته، وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها إذا هي كفلقة القمر تتلألأ نورًا يبهر الأبصار، فلما أعادها إلى جيبه واستخرجها رجعت إلى صفتها الأولى، ومع هذا كله لم يقتنع فرعون بشيء من ذلك بل استمر على كفره وطغيانه وادعى أن هذا كله سحر، وأراد معارضته بالسحرة فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ومن هم في رعيته وتحت سلطته ودولته، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

 

قصة نبي الله موسى عليه السلام مع سحرة فرعون

استمر فرعون على كفره وأخذ يهدد نبي الله موسى عليه السلام ويتوعده بالسجن والتعذيب والأذى، ثم دعا وزيره هامان واستشاره في أمر موسى وما دعاه إليه وما رأى منه فقال له: إن اتبعته فيما دعاك له تصير تعبد بعد أن كنت تُعبد، وزيّن له باطله وما هو عليه من طغيان وتكبر، فخرج فرعون إلى قومه وقال يصف موسى عليه السلام:{قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ  *  يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}سورة الشعراء، ثم دعا جماعته واستشارهم في أمر موسى عليه السلام وما رأى منه، فأشاروا عليه أن يجمع السحرة ليبطلوا على زعمهم ما جاء به موسى لأنهم ظنوا أن ما جاء به من الآيات هو من قبيل السحر، وقال الملأ من قوم فرعون:{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}سورة الأعراف، ففعل فرعون ما طلبوا منه وذهب يجمع من كان ببلاده بمصر من السحرة وكانت بلاد مصر في ذلك الزمان مملوءة سحرة متمكنين في سحرهم حتى اجتمع له خلق كثير من السحرة وجم غفير منهم فكانوا سبعين ساحرًا وقيل أكثر من هذا بكثير، ولما اجتمعوا عند فرعون طلب منهم فرعون أن يجمعوا قواهم ويوحدوا هدفهم وجهودهم ليبطلوا على زعمه سحر موسى، وأخذ فرعون يُغريهم بالمال والمنصب وأنه سيجعلهم من خاصته فيما إذا تمكنوا من موسى وغلبوه بسحرهم، قال تعالى:{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لعلَّنا نتَّبِعُ السَّحرةَ إن كانوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قالَ نعم وإنَّكم إذًا لمنَ المُقرَّبين}سورة الشعراء.

وقال الله تعالى:{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى* قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى*قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}سورة طه.

وكان موعد اللقاء يوم عيد فرعون يجتمع فيه الرعية في وضح النهار من الضحى قال تعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}سورة طه.

 وجاء موسى عليه السلام حاملا عصاه في يده ومعه أخوه هارون في الموعد المحدد، وكان فرعون جالسًا مُستشرفًا بأهبة في مجلسه مع أشراف قومه من الأمراء والوزراء ومعهم السحرة الذين جلبهم من كل أنحاء بلاد مصر التي كان يحكمها، فأقبل موسى عليه السلام نحو السحرة وزجرهم عن تعاطي السحر الباطل الذي فيه معارضة لآيات الله وحججه وقال لهم:{قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}سورة طه، أي يستأصلكم ويُهلككم بعذاب، وارتعد السحرة من مقالته هذه وفزعوا وقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر، ولما اصطفّ السحرة ووقف موسى وهارون عليهما السلام تجاههم قالوا لموسى عليه السلام:{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى*قَالَ بَلْ أَلْقُوا}سورة طه، وكان هذا تهكمًا بهم، عند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم وألقوا حبالهم وعصيهم التي كانت معهم وهم يقولون: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، وإذا بهذه الحبال والعصي يخيل للناس الحاضرين أنها حيات وثعابين تتحرك وتسعى، يقول الله تبارك وتعالى:{قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}سورة الأعراف، وقال الله تعالى:{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}سورة طه.

وأمام هذا الموقف المثير المستغرب نظر نبي الله موسى عليه السلام فإذا بهذه الحبال والعصي يخيل إليه أنها حيات تسعى، فأوجس في داخل نفسه خيفة حيث خاف على الناس أن يفتنوا بسحر السحرة قبل أن يلقي ما في يده، ولكن الله سبحانه وتعالى ثبّته أمام هذا الجمع الزاخر من السحرة وأوحى إليه أن {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى} سورة طه، أي الغالب المنتصر عليهم، وأمره تعالى أن يلقي عصاه التي كانت في يده، فلما ألقاها عليه السلام إذا هي تنقلب إلى حية حقيقية عظيمة ذات قوائم وعنق عظيم وشكل هائل مزعج، بحيث إن الناس الذين كانوا بالقرب منها انحازوا وهربوا سراعًا وتأخروا عن مكانها، وأقبلت هذه الحية على ما ألقاه السحرة من الحبال والعصي والتي خُيّل للناس الحاضرين أنها حيات تسعى فجعلت تلقفه وتبتلعه واحدًا واحدًا وفي حركة سريعة والناس ينظرون إليها متعجبين لهول ما رأوا وشاهدوا أمامهم.

وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم واطلعوا على أمر لم يكن في بالهم ولا يدخل تحت قدرتهم وتحققوا بما عندهم من العلم أنّ ما فعله موسى عليه السلام ليس بسحر ولا شعوذة وأن ما يدعو إليه ليس زورًا ولا بهتانًا، وكشف الله تعالى عن قلوبهم غشاوة الغفلة وقذف وخلق في قلوبهم الاهتداء والإيمان لذلك ءامنوا وخرّوا له ساجدين وأقرّوا بوحدانية الله تعالى، لأنهم أيقنوا أن ما جاء به موسى ليس من قبيل السحر وإنما هو ءاية من ءايات الله تعالى الباهرة خلقها الله تعالى وأظهرها بقدرته على يد رسوله موسى عليه السلام لتكون برهانًا ساطعًا على صدقه فيما جاء به وبلغه عن الله تعالى، ولو كان ما فعله موسى عليه السلام من قبيل سحرهم لاستطاعوا معارضته بمثله، لذلك أعلنوا إسلامهم وإيمانهم جهرة أمام الحاضرين وفيهم ملكهم فرعون وأهل دولته غير ءابهين بفرعون وسطوته وقالوا: ءامنا برب العالمين رب موسى وهارون، يقول الله تبارك وتعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَايَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ*قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ*رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}سورة  الأعراف، وقال تعالى:{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}سورة طه.

ولما رأى فرعون هؤلاء السحرة قد أعلنوا على الملإ إسلامهم وإيمانهم وأشهروا ذكر موسى وهارون عليهما السلام في الناس على هذه الصفة الجميلة أفزعه ذلك وبهره وأعمى بصيرته، وكان فيه كيد ومكر وخداع في الصدّ عن سبيل الله، فأراد أن يستر هزيمته ويستعيد هيبته فقال مخاطبًا السحرة بمكر وخداع وبحضرة الناس:{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}سورة طه.

ومع ذلك ثبت السحرة على الإيمان والإسلام ولم يبالوا بوعيد فرعون وتهديداته بل واجهوه بكل جرأة رافضين تسلطه وهيمنته، وءاثروا الحق الذي جاء به موسى وهارون على فرعون وجبروته، وءاثروا الآخرة الباقية ودار النعيم الدائم على الدنيا الفانية الزائلة، يقول الله تبارك وتعالى:{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى}سورة طه.

وقال تعالى:{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَقَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ*قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ*وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}سورة الأعراف.

ونفّذ فرعون الطاغية تهديده ووعيده فصلب هؤلاء السحرة الذين ءامنوا وتابوا وقطّع أيديهم وأرجلهم وقتلهم ليُروي غليله الحاقد دون أن يستطيع ثنيهم عن الإيمان والإسلام، فماتوا شهداء أبرار قد نالوا الدرجات العلى رضوان الله عليهم أجمعين، فقد كانوا أول الأمر سحرة فجّارًا ثم صاروا بعد قتلهم ظُلمًا شهداء بررة، والله تعالى يعطي الفضل من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

 

 

 

 

< Previous Post

نبي الله موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ج (1)

Next Post >

نبي الله موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ج (3

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map