إن الحمدَ للهِ نَحمدهُ ونَستغفرهُ ونَستَعينهُ ونستهديهِ ونعوذُ بالله من شرورِ أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هاديَ له وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ من بعثَهُ الله رحمةً للعالمينَ هاديًا ومبشرًا ونذيرًا بلّغَ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونَصَحَ الأمة فجزاهُ الله عنَّا خيرَ ما جزى نبيًّا من أنبيائهِ صلوات الله وسلامُهُ عليهِ وعلى كُلّ رسولٍ أرسلَه.
أما بعد فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله القائلِ في كتابهِ:” إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ” [سورة القلم/34]. فهنيئًا لمن التزمَ التقوى دربًا ونبراسَ هدًى، فهي المُوصِلَةُ إلى جَنَّةِ الله البهيّةِ من غيرِ عذابٍ، والذي يُوصِلُ إلى التقوى هو العلمُ والمعرفةُ والعملُ بهذا، فمن تعلَّمَ العلمَ الشرعيَّ ليعملَ بهِ رفعَهُ عِلمُهُ، والعلمُ بالله ورسولهِ ودينهِ أوَّلُ واجبٍ على العبدِ.
ومن هنا نجدُ أن سيرةَ العلماءِ الصالحينَ هي سيرةُ علمٍ وعملٍ وإخلاصٍ وتواضعٍ للَّهِ تعالى، فللعلمِ رجالٌ قاموا بهِ ونشروهُ طمعًا في مرضاةِ الله وليكونوا على دربِ مصطفانا سيدِنا محمدٍ الأمينِ عليهِ أفضلُ الصلاةِ والتسليمِ، فالأرضُ لا تخلو من قائمٍ للَّهِ بحجةٍ، وعلى مرّ العصورِ السابقةِ رأينا تحققَ هذهِ المقالةِ، ومن هؤلاءِ الفرسانِ الجهابِذَةِ الأعلامِ أحرارِ الصدورِ وأصفياءِ النفوسِ عالمٌ جليلٌ إمامٌ، نِحريرٌ هُمامٌ هو الشافعيُّ أبو عبدِ الله محمدُ بنُ إدريسَ رحمهُ الله تعالى، الذي ولدَ عامَ مائةٍ وخمسينَ هجريةً من ءالِ المطَّلِبِ أبناءِ عمومةِ الرسولِ العربيِ عليه الصلاةُ والسلام.
ولدَ الإمامُ الشافعيُّ بغزةَ ونشأَ بعسقلانَ وانتقلَ إلى مكةَ ليتزودَ من العلمِ، مَعَ أنهُ نشأَ في أسرةٍ فقيرةٍ، فلقد ماتَ أبوهُ وهو صَغيرٌ فعاشَ في ضِيقٍ، ولكنَّ هذا لم يمنعْهُ من العلمِ والمعرفةِ، فقد وصَلَ بهِ الأمر إلى كتابةِ العلمِ الذي يأخذُهُ على قطعِ الجلودِ وسَعَفِ النَخْلِ لضِيقِ ذاتِ يدهِ وعدمِ قدرتهِ على شراءِ الوَرَقِ.
حفظَ القرءانَ الكريمَ وهو ابنُ سبعِ سنواتٍ، وأخذَ يحفظُ الأحاديثَ النبويةَ ويكتُبُها، ورحَلَ إلى الصحراءِ لطلبِ اللغةِ العربيةِ والشِعْرِ وبقيَ فيها عشرَ سنواتٍ، وتعلَّمَ الرميَ بالسهامِ فكانَ يصيبُ عَشَرةً من عَشَرَةِ، ولكنَّهُ كانَ في طَلَبِ العلمِ الشرعي مُجِدًّا صادِقَ الهمةِ، ماضِيَ العزيمَة أُذِنَ لهُ وهو بمكةَ بالإفتاءِ رَغمَ حداثةِ سِنّهِ، ولكنهُ لم يكتفِ بذلكَ فسافرَ إلى المدينةِ ليتفقهَ على يدِ إمامِها مالكِ بنِ أنسٍ. استعارَ كتابَ الموطأِ للإمامِ مالكٍ فحفِظَهُ؛ وهنا نَلْحَظُ أنه لم يكنْ يستطيعُ أن يشتريَ الكُتُبَ من شدةِ الفقرِ، ولم يثْنِهِ ذلكَ عن مَقْصودهِ ومبتغاهُ وهو يعلمُ أن الله إذا أحبَّ عبدًا يُهيئ لَهُ من يعلِمُهُ أمورَ الدينِ على الوجهِ الصحيحِ، فلما أتى مجلسَ مالكٍ سألَهُ الإمامُ مالِكٌ عن اسمهِ فقالَ: محمدٌ، فقالَ لَهُ:” اتقِ الله يا محمدُ واجتنبِ المعاصيَ فإنهُ سيكونُ لكَ شأنٌ، إن الله قد ألقى على قلبِكَ نورًا فلا تُطْفِئْهُ بالمعصيةِ“. ثمَ أخذَ الشافعيُّ يقرأُ على مالكٍ ويتلقى العلمَ منهُ، وظلَّ مَعَهُ يروي عنهُ إلى أن ماتَ الإمامُ مالِكٌ رحمهُ الله تعالى.
وقد نبغَ الشافعيُّ نبوغًا عظيمًا وعلا شأنهُ وسما عِلْمهُ، وقد تحقَّقَ فيهِ قولُ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ في الحديثِ الشريفِ:” لا تَسُبُّوا قريشًا فإنَّ عالمها يملأ طِبَاقَ الأَرضِ عِلْمًا” ومعناهُ: سيأتي عالمٌ من قريشٍ يملأُ جهاتِ الأرضِ علمًا، ففكرَ العلماءُ على من ينطبقُ هذا الحديثُ فوجدوهُ ينطبقُ على الإمامِ الشافعيّ لأنهُ من قريشٍ، أما الثلاثةُ الآخرونَ مالكٌ وأبو حنيفةَ وأحمدُ فليسوا من قريشٍ.
وقد أكرمَ الله تعالى الشافعيَّ بمواهبَ عديدةٍ منها حُسنُ الصوتِ، حتى إنهُ لما كان يقرأُ القرءانَ وهو فتًى كان يقصِدُهُ الناسُ للاستماعِ إلى صوتهِ الشجيِّ، وكان بعضُ الجالسينَ المستمعينَ لقراءتهِ يتساقطونَ من شدةِ خشيةِ الله وما ذاكَ إلا لسِرّ في قراءَتهِ.
ومما ورد في عبادتِه رحمه الله ما رُوي مِن أنه كان يُقَسِّم الليلَ إلى ثلاثةِ أجزاء: ثُلُثٌ للعلم، وثلثٌ للعبادة، وثلثٌ للنوم. وورد في زهدِ الإمام الشافعي أنه قال: ما شبعتُ منذُ ستَ عشرةَ سنة، لأنَّ الشِّبَعَ يُثْقِلُ البدن، ويُقَسِّي القلب، ويزيلُ الفِطْنَة، ويجلبُ النوم، ويضعفُ صاحبه عن العبادة. وورد في ورعه أنه مرة سُئل عن مسئلة، فسكتَ فقيل له: ألا تجيبُ رحمكَ الله!، فقال:” حتى أدري، الفضلُ في سُكوتي أو في جوابي؟ .
إخوة الإيمان والإسلام، ومِن أهم ما في حياةِ الإمام الشافعي، رحمه الله، منهجُه في العقيدة، والتزامُه نهجَ الكتاب والسنة، وما عليه سلفُ الأمة من تنْزيه الله تعالى عن الجسم والمكان، ومن تكفيره للمجسمة الذين يصفون الله بصفاتِ المخلوقات، ومنْ تكفيرِ الذين ينسبونَ الجلوس لله تعالى، والعياذ بالله، ومن أقواله في العقيدةِ الحقةِ ما نقله عنه الزبيديّ في كتاب إتحافِ السادةِ المتقين أنه قال ما نصُّه:” إنَّه تعالى كانَ ولا مَكَان، فخَلَقَ المكانَ، وهو على صفةِ الأزليةِ كما كانَ قبلَ خَلْقِه المكان، لا يجوزُ عليهِ التغيّرُ في ذاتِه ولا التبديلُ في صفاتِه“. ا هـ. ورَوَى الحافظُ السُّيوطيُّ في كتابِه الأشباه والنظائر عن الإمامِ الشافعي أنه قال:” المجسِّمُ كافرٌ“. وفي كتابِ نجم المهتدي ورجم المعتدي للإمام ابنِ الـمُعَلِّم القرشيِّ أن الإمامَ الشافعيَّ رضي الله عنه قال:” مَنْ يعتقدُ أنَّ اللهَ جالسٌ على العرشِ فهو كافر” كما حكاهُ القاضي حسين.
وقال أيضا:” منِ انتهضَ لمعرفةِ مُدَبِّرِهِ فانتَهَى إلى موجودٍ يَنْتَهِي إليه فِكْرُهُ فهو مُشّبِّهٌ، وإنِ اطمأنَّ إلى العَدَمِ الصِّرفِ فهو مُعَطِّلٌ، وإنِ اطمأنَّ إلى موجودٍ واعترفَ بالعجزِ عنْ إدراكِهِ فهوَ مُوَحِّدٌ“. انتهى كلامُ الإمام الشافعي.
أما عن وفاةِ الإمامِ الشافعيِّ فقد حُكيَ أنَّ الإمامَ المزنيَّ دخَلَ على الإمامِ الشافعيِّ في مَرَضِهِ الذي ماتَ فيه فقال: كيفَ أصبحتَ؟ فأجابه قائلا: أصبحتُ مِنَ الدُّنيا راحِلا، وللإخوانِ مُفَارِقا، ولسيِّئ عَمَلِي مُلاقيا، ولِكَأْسِ المنِيَّةِ شاربًا، وإلى ربي واردًا، لا أدري تصيرُ روحِي إلى الجنَّةِ فأُهَنِّيْهَا، أو إلى النَّارِ فأُعَزِّيها ثم أنشدَ قائلا:
ولما قسَا قلبي وضاقتْ مَذَاهِبِي جَعَلْتُ الرَّجا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلَّما
تَعَاظمني ذنبي فلما قَرَنْتُهُ بِعَفْوِكَ ربي كانَ عفوُكَ أعظَما
وما زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عنِ الذنبِ لم تَزَل تجودُ وتعفو مِنَّةً وَتَكَرُّما
فجزى اللهُ علماءَ أُمَّةِ محمدٍ عنّا خيرًا فهمُ البَلْسَمُ في زمنٍ خيَّمَ فيهِ الفسادُ والضلالُ والظلامُ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.