الحمدُ للهِ الذي شَرَّفَ قدْرَ سيّدِنا محمدٍ الرَّسولِ الكريم، فخصَّهُ بالصلاةِ عليهِ وأَمرَنا بذلك في القُرءانِ الحكيم، ومَنَّ علينا باتّباعِ هذا النبيِّ الرَّحيم، وحبَّبَ إلينا اقتفاءَ ءاثارِه في الحديثِ والقديم. اللهمَّ صلِّ وسلِّم على سيّدِنا محمدٍ وءالهِ وصحبهِ أُولي الفَضل العَميم، صلاةً وسلامًا دائِمَين يُضيءُ نورُهما ظلامَ الليلِ البَهيم.
أما بعدُ عبادَ الله فإني أُوصيكُم ونفسي بتقوى اللهِ العليِّ العَظيم القائلِ في كتابه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: 19].
إخوةَ الإيمان، الكَيِّسُ الفَطِنُ مَنْ خافَ رَبَّه ودانَ نفسَه وعَمِلَ لما بعدَ الموت، فعليكَ أخي المؤمن بملازمةِ الشَّرعِ ظاهرًا وباطنًا، وبحفظِ قلبك وجوارحك مِن الحرام، وبادِرْ دائمًا إلى العملِ الصالحِ وخدمةِ الفُقراءِ وأَصحابِ الحاجاتِ، مِن غَير كسلٍ ولا مَلل، فإنَّ همةَ أبناءِ الدُّنيا دُنياهُم، وهمةَ أبناءِ الآخرةِ ءاخِرَتُهم، فكُن مِنْ أبناءِ الآخرة ولا تَكُنْ مِنْ أبناءِ الدُّنيا.
وقد روى الإمام البخاري في الأدب المفرد أنه جَاءَ قَوْمٌ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَقَالُوا: إِنَّ لَنَا جِيرَانًا يَشْرَبُونَ وَيَفْعَلُونَ، أَفَنَرْفَعُهُمْ إِلَى الْإِمَامِ؟ قَالَ: لَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْ مُسْلِمٍ عَوْرَةً فَسَتَرَهَا، كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قَبْرِهَا».
ورواه أبو داود في سننه بلفظ: « مَنْ رأى عوْرَةً فسترها كمن أحيا مَوءُودَةً».
ورواه الإمام أحمد في مسنده بلفظ: قَالَ: قُلْتُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: إِنَّ لَنَا جِيرَانًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ. قَالَ: اسْتُرْ عَلَيْهِمْ. قَالَ: مَا أَسْتُرُ عَلَيْهِمْ أُرِيدُ أَنْ أَذْهَبَ أَجِيءَ بِالشُّرَطِ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ عُقْبَةُ: وَيْحَكَ، مَهْلًا عَلَيْهِمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا، كَانَ كَمَنْ اسْتَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قَبْرِهَا ».
ورواه ابن حبان في صحيحه بلفظ: فقَالَ عُقْبَةُ: وَيْحَكَ لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مؤمن فكأنما استحيا موءودة في قبرها».
ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي، بلفظ: «مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنِ اسْتَحْيا مَوْءُودَةَ مِنْ قَبْرِهَا».
في هذا الحديثِ الشريفِ أنَّ (من رأى) من أخيه المؤمن (عورة) أمرًا قبيحًا وسيئًا يكره اطلاع العباد عليه، والمعنى من علم عيبا أو أمرا قبيحا في مسلم (فسترها) عليه حتى كأنه ما رأى شيئًا، أيْ لم يَنْشُرْها بينَ الناسِ بلْ أخفَاها (كان كمن أحيا موءودة) نَفْسًا قُتلت ظلمًا (من قبرها) فأخرجها من قبرها لئلا تموت،
فلَه أجرٌ كأجرِ مَنْ أَنقَذَ مولودةً دُفِنَتْ وهي حيَّةٌ خَشْيةَ العارِ كما كانَ العربُ يفعلونَ في الجاهلية. وفي الحديث الحث على ستر عورات المسلمين، وهذا في غير المتجاهر بالفسوق والعصيان.
ثم إنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى ذكرَ في القرءانِ الكريم تقبيحَ هذا الأمرِ أي وأْدِ البنات، فقالَ عزَّ مِن قائل: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ سورة التكوير: 8-9 لأنَّه مِنْ أشنَعِ الجرائِم. فالرسولُ صلى الله عليه وسلم شَبَّهَ أجرَ الذي رأَى عورةَ مُسلمٍ أي ما يُعابُ عليه ويَستَحي منه لو اطَّلعَ عليه الناسُ فَسَتَرها عليه بأجْرِ الذي رأَى موءُودةً فأنقَذَهَا قبلَ أنْ تموتَ وتختَنِقَ في القبر.
فالحذرَ الحذرَ إخوةَ الإيمانِ مِنْ هَتكِ سِتْرِ مُسلمٍ إنْ علمتُم منه زَلةً وقد ستَرها اللهُ تعالى ما لم يأذنِ الشرعُ بذلكَ، واحذَرُوا أن تكونوا ممن يتمادَونَ في تهشيمِ عِرْضِ المسلمِ أي يُكثرونَ الوَقيعةَ فيه أينمَا ذَهبُوا ويتَّخذونها عادةً لهم منْ غيرِ سببٍ شرعيٍّ، فهؤلاءِ ذنبُهم كبير، فقد روى مسلم في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وأما الإنسانُ الذي يغُشُّ في تجارتِه أو تدريسِه باسمِ الدِّين أو عِلمِ الدُّنيا أوِ الطِّبابةِ أوِ الصِّناعةِ أو غيرِ ذلك منْ سائرِ فنونِ المعاملاتِ فهذا يجبُ التحذيرُ منه وبيانُ غِشِّهِ للناس من بابِ النصيحةِ، فقد روى مسلم في الصحيح عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».
وقد قالَ بعض الواعظين:
إذا شِئتَ أن تَحيا سليمًا مِنَ الأَذى وحَظُّكَ مَوفُورٌ وعِرْضُكَ صَيِّنُ
لسانُكَ لا تذكرْ بهِ عَورةَ امْرِىءٍ فكلُّكَ عوْراتٌ وللناسِ أَلْسُنُ
وعينُكَ إنْ أبدَتْ إليكَ مَعايِبًا فَصُنْها وقُل يا عينُ للنَّاسِ أعينُ
وعاشِرْ بمعروفٍ وسامِحْ منِ اعتَدَى وفارِقْ ولكنْ بالتي هي أحسَنُ
هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم.