ترجمته
هو أبو عبد الله بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي وأمه أروى بنت كُرَيْز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف.
وُلد بالطائف بعد الفيل بست سنين دخل في الإسلام على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وعمره حينئذ تسع وثلاثون سنة وكان هذا قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم فسيدنا عثمان رضي الله عنه من السابقين الأولين الذين ذكرهم الله تعالى في القرءان بقوله {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} (سورة التوبة/ءاية 100) وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث واحد وفي سياق واحد: “أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعلي في الجنة وعثمان في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة”. رواه الإمام أحمد في مسنده.
وكان رضي الله عنه أول من هاجر بأهله وقد هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة المنورة وهو أول من طيَّبَ المسجد وأول من زاد أذانًا ثانيًا يوم الجمعة وأول من أعطى أجرة للمؤذنين وأول من فَوَّضَ إلى الناس إخراج زكاتهم وأول من وُلّيَ الخلافة في حياة أمه وأول من اتخذ صاحب شرطة.
وقد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها إلا بدرًا لأن زوجته رقية كانت مريضة فأمره صلى الله عليه وسلم أن يقيم بالمدينة ليمرضها وعدَّه الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل بدر وأسهم له في غنائمها.
ذكر زوجاته وأولاده
قبل نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عثمان رضي الله عنه ابنة النبيّ صلى الله عليه وسلم رقية وقد هاجرت معه إلى الحبشة وماتت عنده في ليالي بدر وهي التي ولدت له عبد الله فصار يكنى بأبي عبد الله بعد أن كان يكنى بأبي عَمْرو ثم زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم من ابنته أم كلثوم وبقيت عنده إلى أن ماتت سنة تسع للهجرة وبهذا سُمّي رضي الله عنه بذي النورين لأنه تزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتزوج رضي الله عنه فاختة بنت غزوان فولدت له عبد الله الأصغر وتزوج أم عمرو بنت جندب الدَّوْسِيّة فولدت له عَمْرًا وخالدًا وأبانًا وعُمَر ومريم وتزوج فاطمة بنت الوليد بن المغيرة فولدت له الوليد وسعيدًا وأم سعيد وتزوج أم البنين بنت عيينة الغزارية فولدت له عبد الملك وتزوج رملة بنت شيبة فولدت له عائشة وأم أبان وأم عَمرو وتزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية فولدت له مريم وقيل إنها ولدت له عَنْبسة وأختًا لها تسمى أم البنين.
ذكر صفاته الخَلْقِية
كان رضي الله عنه رَبْعَة أي معتدل القامة ليس طويلاً ولا قصيرًا حسن الوجه أبيض مشربًا بحمرة رقيق البشرة، عظيم الكراديس أي مفاصل عظامه كانت عظيمة بعيد ما بين المنكبين كثير شعر الرأس عظيم اللحية.
نبذة من شمائله وفضائله
لقد جعل كثير من أهل التراجم والسير فصولاً تتناول مناقبه رضي الله عنه حتى إن الترمذي رحمه الله ألَّف كتابًا خاصًا به سَمَّاه “مناقب عثمان”.
ومن ذلك ما رواه مسلم في فضائل عثمان وأحمدُ في مسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا كاشفًا عن فخذه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله ثم استأذن عمر وهو على حاله ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه، فلما قاموا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك فقال: “يا عائشة ألا أستحيي من رجل، واللهِ إن الملائكة لتستحيي منه”.
وروى ابن الجوزي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان مع النبي في حائط من حيطان المدينة فجاء رجل يستفتح فقال النبي: “افتح له وبشره بالجنة” ففتحت فإذا أبو بكر فبشرته بالجنة، ثم استفتح رجل ءاخر فقال: “افتح وبشره بالجنة” فإذا عمر ففتحت وبشرته بالجنة ثم استفتح رجل ءاخر وكان متكئًا، فجلس فقال: “افتح له وبشّره بالجنة على بلوى تصيبه” فإذا عثمان ففتحت له وبشّرته بالجنة فأخبرته بالذي قال فقال: الله المستعان.
وأخرج البخاري في فضائل الصحابة ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد بن حنبل أن جبل أُحُد ارتجَّ وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “اسكن أُحد، فما عليك إلا نبي وصدّيق وشهيدان”.
وفي تاريخ ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوَّل الليل إلى أن طلع الفجر رافعًا يديه يدعو لعثمان: “اللهم عثمان رضيتُ عنه فارضَ عنه”.
وروى الحافظ أبو نُعيم الأصفهاني في كتابه “حلية الأولياء” عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: “اشترى عثمان بن عفان من رسول الله الجنة مرتين، حين حفر بئر رُومة وحين جهز جيشَ العُسْرة”.
وكانت بئر رُومة يباع ماؤها للمسلمين فاشتراها عثمان رضي الله عنه وحفرها وجعلها عامة للمسلمين. ولا تزال إلى الآن معروفة في المدينة المنوّرة.
وتفصيل حادثة تجهيز جيش العسرة في ما رواه الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب السلمي قال: خطب النبي فحث على جيش العسرة فقال عثمان: عَلَيَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها ثم حَثَّ فقال عثمان عَلَيَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال السُّلميُّ: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بيده يحركها: “ما على عثمان ما عمل بعد هذا”.وفي رواية للحاكم النيسابوري رحمه الله تعالى عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلّبها ويقول: “ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم” مرتين.
وأخرج صاحب “حلية الأولياء” عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان يوم جيش العسرة جائيًا وذاهبًا فقال: “اللهم اغفر لعثمان ما أقبل وما أدبر، وما أخفى وما أعلن، وما أَسَرَّ وما أجهر”.
كما روى الطبراني عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عثمان أحيَا أمتي وأكرمها”.
جمعُه القرءان الكريم
ذكر البخاري في صحيحه مبدأ أمر جمع القرءان في مصحف واحد وهو أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أرسل إلى زيد بن ثابت وهو من كتبة الوحي فأتاه زيد فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنده فقال الصديق رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استَحَرَّ يوم اليمامة بقُرَّاء القرءان (أي كَثُر) وإني أخشى إن استحرَّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرءان وإني أرى أن تأمر بجمع القرءان. فقال زيد لعمر رضي الله عنه: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: هذا والله خير. قال زيد: “فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر”. وتتبع زيد بن ثابت رضي الله عنه القرءان فصار يجمعه من العُسُبِ واللخاف (وهي الحجارة البيضاء الرقيقة) وصدور الناس، وكانت في صحف عديدة جمعت عند أبي بكر رضي الله عنه حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
ولمَّا بويع عثمان رضي الله عنه بالخلافة استشار الصحابة فكان الرأي أن يجمع القرءان في مصحف واحد، فجمع عثمان رضي الله عنه عددًا من الصحابة، قال أبو داود: كانوا اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار وكان بينهم من كتب الوحي وأرسل إلى حفصة بنت عمر رضي الله عنها يطلب منها الصحف التي جمعها زيد بن ثابت ثم نسخها في كتاب واحد.
وفي “فتح الباري” لابن حجر العسقلاني أن عثمان رضي الله عنه قال: من أكْتَبُ الناس؟ قالوا: زيد بن ثابت، قال: فأي الناس أفصح؟ قالوا: سعيد بن العاص، فقال: فَلْيُمْلِ سعيد وليكتب زيد.
ولمَّا انتهوا من نسخ المصحف جعل منه نُسخًا وأرسلها إلى الأمصار وقد اختلف في عدد النسخ هذه، فمنهم من قال: هي أربعة ومنهم من قال: خمسة وقيل: ستة وسبعة ثم جمع ما سوى هذه النسخ من القرءان فأحرقها وأمر إلى أهل الأمصار بذلك.
وقد كان جَمْعُ عثمان رضي الله عنه للقرءان لمّا كثر الاختلاف في وجوه القراءات على اختلاف لغات العرب فتنازع أناس وخطَّأ بعضهم بعضًا، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك حتى جمعه على لغة قريش، ولا يعني ذلك منع قراءته بلغات العرب الأخرى وذلك أنه جاء في صحيح البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن هذا القرءان أُنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه”.
ثناء الناس عليه رضي الله عنه
قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان عثمان من الذين: {ءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتَّقَوا وءامنوا ثم اتَّقَوْا وأحسنوا والله يحب المحسنين} (سورة المائدة/ءاية 93) ذكره الأصفهاني في “حلية الأولياء”.
وروى الإمام أحمد رضي الله عنه عن رُهَيْمَة جدة الزبير بن عبد الله أنها قالت: كان عثمان يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله.
وقال ابن سيرين رحمه الله: “قالت امرأة عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أطافوا يريدون قتله: إن تقتلوه أو تتركوه فقد كان يحيي الليل كله في ركعة يجمع فيها القرءان” رواه ابن الجوزي.
وأخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن مهدي قال: خصلتان لعثمان ليستا لأبي بكر ولا لعمر رضي الله عنهم: صبره على نفسه حتى قُتِلَ مظلومًا وجمعه الناس على المصحف.
تواضعه
إضافة إلى ما اجتمع في سيدنا عثمان رضي الله عنه من الخصال المرضية والصفات السَّنِيَّة من حلم وعلم وكرم وجود وحياء وصفاء وورع وزهد كان من أشد الناس تواضعًا.
أخرج ابن سعد عن عبد الله الرومي قال: كان عثمان يلي وضوء الليل بنفسه فقيل له: لو أمرتَ بعض الخدم فكفوك، قال: لا، الليل لهم يستريحون فيه.
وروى الإمام أحمد أن الحسن رضي الله عنه سُئِلَ عن القائلين في المسجد (أي الذين ينامون أو يستلقون في المسجد عند منتصف النهار) فقال: رأيت عثمان بن عفان يَقِيلُ في المسجد وهو يومئذ خليفة وأثر الحصى بجنبه فيقال: هذا أمير المؤمنين هذا أمير المؤمنين. وعن شرحبيل بن مسلم أنه قال: كان عثمان رضي الله عنه يُطعم الناس طعام الإمارة ويَدخل بيته فيأكل الخل والزيت.
ذكر خلافته
بعد دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثلاث ليال بويع سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بالخلافة يوم الإثنين لليلة بقيت من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة واستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين وعاش في الخلافة اثنتي عشرة سنة وكان خاتمه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر رضي الله عنهم.
وفي خلافته رضي الله عنه غزا المسلمون ففتحوا الكثير من البلاد فتوسعت بهم بلاد الإسلام ومن هذه البلاد التي افتتحت جزيرة قبرص وكَرْمَان وسِجِسْتَان وكابُل وبلاد أخرى في أفريقية.
قصة استشهاده وما جرى عليه
لمّا تمت الفتوحات للأمة الإسلامية وقَوِيَ الملك في الأمصار واختلطت العرب بالأمم والأقوام المختلفة اللغات وكثر الطعن والقيل والقال في المدينة المنورة كتب رؤساء الفتنة إلى جماعتهم في الأمصار يستقدمونهم إلى المدينة إرادة الفتنة والمكيدة للخليفة فحاصروه في بيته أيامًا، وكان سيدنا عثمان رضي الله عنه يقول: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إليَّ عهدًا فأنا صابرٌ عليه” رواه الترمذي في مناقب عثمان.
فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يا عثمان إنه لعل الله يُقَمّصُكَ قميصًا (أي الخلافة)، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني” أخرجه الحاكم والترمذي.
فلمّا بلغ سيدنا عليًا رضي الله عنه أن أصحاب الفتنة حاصروا عثمان ومنعوه الماء وأرادوا قتله، أرسل إليه بثلاث قرب مملوءة بالماء وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدًا يصل إليه وبعث الزبيرُ ابنه وبعث طلحةُ ابنه وبعث عدة من الصحابة أبناءهم يمنعون الناس من أن يدخلوا على عثمان رضي الله عنه.
ولكن رجالاً من الذين أرادوا بسيدنا عثمان شرًّا تَسَوَّروا من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا عليه وكان يقرأ القرءان وهو صائم، فضربه أحدهم بالسيف فأكبَّت عليه نائلة زوجته فَقُطِعَت أصابع يدها ولم يكن مع عثمان رضي الله عنه سواها في الدار، فقتل شهيدًا رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة خلت من شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة، وعمره تسعون وقيل أكثر من ذلك وقيل أقل ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء بمقبرة البقيع بالمدينة المنورة وصلى عليه الزبير.
وقد قال سيدنا عثمان رضي الله عنه قبل قتله: إني رأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبا بكر وعمر فقالوا: اصبر فإنك تُفطر عندنا القابلة.
وقد أورد ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” أبياتًا لحسان بن ثابت الأنصاري في الذين قدموا المدينة من مصر واجتمعوا على قتله:
أتركتم غـزو الدروب وراءكم وغزوتمونا عند قبر محمد
فلبئس هديُ المسلمين هديتُمُ ولبئس أمرُ الفاجرِ المتعــمدِ
إن تقدموا نجعل قرى سَرَواتكم حول المدينة كُلَّ لَين مـذودِ
أو تدبروا فلبئس ما سفرتُمُ ولَمِثْلُ أمر أميركـــم لم يَرْشَدِ
وكأن أصحاب النبي عشية بُدْنٌ تُـذَبَّحُ عند باب المسجــدِ
أبكي أبا عمرو لحسن بلائه أمسى ضـجيعًا في بقيع الغرقد
وبعد فإنما هذا غيض غائض من فيض فائض من بحر فضائل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا ونفعنا ببركته وحشرنا في زمرته وأماتنا على سنته ومحبته، إنه سبحانه على ما يشاء قدير وبعباده لطيف خبير.