إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَن يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ الْأُمَّةَ، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ، صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ.
أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللَّهِ، أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ الْعَظِيمِ، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ. قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ.”
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ، إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هِيَ مِنْ سُوَرِ الْقُرْءَانِ الْعَظِيمَةِ مَعَ قِصَرِهَا، لِأَنَّ فِيهَا مِنْ مَعَانِي التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ اللَّهِ مَا يُظْهِرُ عَقِيدَةَ الْمُسْلِمِينَ بِرَبِّهِمْ عَلَى مَعْرِفَتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ:” أنَّ مَنْ قَرَأَهَا مَرَّةً فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْءَانِ، وَمَنْ قَرَأَهَا مَرَّتَيْنِ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَيِ الْقُرْءَانِ، وَمَنْ قَرَأَهَا ثَلاثًا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْءَانَ كُلَّهُ.”
وَأَمَّا عَنْ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاؤُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ: “صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ”، كَانَ سُؤَالُهُمْ هَذَا عِنْادًا، وَلَيْسَ حُبًّا بِالْعِلْمِ وَاسْتِرْشَادًا بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ:” قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ…” إِلَى ءَاخِرِ السُّورَةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: “هَذِهِ صِفَةُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ.”
فَقَوْلُهُ تَعَالَى:” قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ“، أَيِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَالْكَثْرَةَ، وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ أَوِ الْأَفْعَالِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ صِفَةٌ كَصِفَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:” فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ”، أَيْ لَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ.
وَقَوْلُهُ:” اللَّهُ الصَّمَدُ” أَيِ الَّذِي تَفْتَقِرُ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ، فَكُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْعِبَادُ عِندَ الشِّدَّةِ، فَهُوَ تَعَالَى لَا يَجْتَلِبُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا مِنْهُمْ، وَلَا يَدْفَعُ بِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرًا، فَهُمْ لَا يَنْفَعُونَهُ وَلَا يَضُرُّونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّنْ رَزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينِ.”
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:” لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ” مَعْنَاهُ لَا يَنْحَلُّ مِنهُ شَيْءٌ، أَي لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنهُ شَيْءٌ، كَمَا يَنْفَصِلُ عَنِ الرَّجُلِ وَلَدُهُ، وَلَا يَحُلُّ هُوَ فِي شَيْءٍ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ أَصْلًا لِغَيْرِهِ وَلَا فَرْعًا عَنْ غَيْرِهِ.
“وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ” أَيْ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
فَمِنْ هُنَا، أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ، كَانَ لَا بُدَّ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ فِيهِ تَشْبِيهٌ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ فِيهِ نِسْبَةُ الْجِسْمِيَّةِ لِلَّهِ أَوِ التَّجَزُّؤِ أَوِ التَّعَدُّدِ وَالْكَثْرَةِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “اللَّهُ أَكْثَرُ“، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ ذَاتَهُ كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ، بَلْ مَعْنَاهُ أَكْثَرُ إِحْسَانًا أَوْ رَحْمَةً.
أَمَّا مَن فَسَّرَهُ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَثِيرٍ فَهُوَ كَافِرٌ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.
وَيُوجَدُ أُنَاسٌ يَدَّعُونَ التَّصَوُّفَ يَقُولُونَ عَنِ اللَّهِ: وَحْدَةٌ فِي كَثْرَةٍ”، يَقُولُونَ: اللَّهُ وَاحِدٌ وَكَثِيرٌ، هَؤُلَاءِ مِنْ أَكْفَرِ خَلْقِ اللَّهِ، وَهُمْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ وَالتَّصَوُّفَ، وَكَلَامُهُمْ هَذَا لَا تَأْوِيلَ لَهُ.
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَن يَقُولُ وَالعِيَاذُ بالله:
“فَمَا فِي الْوُجُودِ سِوَى وَاحِدٍ … وَلَكِنْ تَكثَّرَ لَمَّا صَفَا”
بَعْضُ مَنْ يَدَّعُونَ التَّصَوُّفَ يَعْمَلُونَ حَلَقَاتِ ذِكْرٍ عَلَى زَعْمِهِمْ يَبْدَأُونَ فِيهَا بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ بِالْتَّهْلِيلِ ثُمَّ يَنتَقِلُونَ إِلَى قَوْلِ ” ءَاه” وَهُمْ وَاقِفُونَ وَيَتَمَايَلُونَ، وَفِي وَسَطِهِمْ “قَوّالٌ” يُنَظِّمُ لَهُمْ حَرَكَاتِهِمْ وَالأَصْوَات، وَهُوَ يُرَدِّدُ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ الَّتِي فِيهَا هَذَا الْكُفْرِ، يَقُولُونَ: اللَّهُ كَانَ وَاحِدًا ثُمَّ صَارَ كَثِيرًا، يَقُولُونَ لَمَّا صَارَ صَافِيًا صَارَ كَثِيرًا، هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ التَّصَوُّفَ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ طَرِيقَةٍ حَتَّى إِنَّ أَحَدَ كِبَارِهِمْ سُئِلَ: كَيْفَ تَقُولُونَ تَكثَّرَ لَمَّا صَفَا، فَقَالَ: كَثُرَتْ صِفَاتُهُ، وَهَذَا كُفْرٌ أَيْضًا، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مَنْ يُحَرِّفُ دِينَ اللَّهِ.
إخوةَ الإيمان، صفاتُ اللهِ أزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، اللَّهُ تَعَالَى أَزَلِيٌّ ذَاتًا وَصِفَاتٍ، فَذَاتُ اللَّهِ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، وَصِفَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنقُصُ، فَهُوَ مَوصُوفٌ بِكُلِّ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ، كَالْقُدْرَةِ وَالإرَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْحَيَاةِ، وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ أَي مَا لَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى.
فَاحْذَرُوا مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّصَوُّفَ وَالطَّرِيقَةَ، فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْكُفْرِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يَتَغَنَّوْنَ فِي الْكُفْرِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ اللَّهِ: إِنَّهُ كَالْمَاءِ الَّذِي ضِمنَ الثَّلْجِ، والعياذ بالله، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ