الحمدُ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونستغفِرُهُ ونستَرْشِدُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، ولا شبيهَ ولا مَثِيلَ لَهُ، مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبالكَ فاللهُ بِخِلافِ ذلكَ، وَمَنْ وَصَفَ اللهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي البَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وأشهدُ أَنَّ سیِّدَنا وحبيبَنا وقائِدَنا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنَا محمدًا عَبْدُ اللهِ ورسولُه وصفيُّهُ وحبيبُه وخَلِيلُهُ، أَرْسَلَهُ اللهُ بالْهُدَی وَدِينِ الحَقِّ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا ونذيرًا، وَدَاعِيًا إلَى اللهِ بإذنِهِ وسِراجًا مُنِيرًا، فَهَدَى اللهُ بهِ الأُمَّةَ وكشفَ بهِ الغُمَّةَ، وأخرَجَ بهِ الناسَ مِنَ الظُلُمَاتِ إلَى النُّورِ، فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ. اللهمَّ صلِّ على سيدِنا محمدٍ وعلَى ءالِه وصحبِه الطيبينَ الطاهرينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإِحسانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أما بعدُ عبادَ اللهِ فَأُوصِي نَفْسِي وإياكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العَظِيمِ فاتَّقوا اللهَ رَبَّكمُ الذي قالَ في كتابِه الكريمِ في سورةِ غافر:” يَوۡمَ لَا يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعۡذِرَتُهُمۡۖ وَلَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ ٱلدَّارِ 52″.

لِيُعْلَمْ أَنَّ الظُّلمَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُوبِقَاتِ وأَكبرِ الْمَفاسِدِ وأَفْحَشِ الآثَامِ التي انتشَرتْ في زمانِنا ومجتمعِنا اليومَ والعياذُ بِاللهِ، فهوَ ذَنبٌ مَشِيْنٌ وعَارٌ مُبِينٌ، يَهْوِي بِصاحِبِهِ إلى الحَضِيضِ، وَيُعَرِّضُهُ لِسَخَطِ اللهِ العَظِيمِ وعُقُوبَتِه، ويَغْرِسُ لَهُ في نُفوسِ النَّاسِ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ، وَيَحْمِلُهُمْ علَى الحَذَرِ مِنْهُ وَالابتِعادِ عنهُ، كما يَحْذَرُ أَحَدُهُمُ الذِّئابَ والأفاعِيَ، فالظالمُ نَادِمٌ وَإِنْ مَدَحَهُ السَّفَلَةُ، والْمَظْلُومُ الصَّابِرُ سَالِمٌ وَإِنْ ذَمَّهُ القَرِيبُ وَالبَعِيدُ.

وَقَدْ أَمَرَ رَبُّنا بِالْعَدْلِ وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ، قالَ تعالَى في سورَةِ النَّحلِ:” إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَانِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ 90.

إنَّ المعنَى الإِجْمَالِيَّ لهذهِ الآيَةِ الْمُبَاركَةِ، يَتَضَمَّنُ الأَمْرَ بِالعَدْلِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، والنَّهْيَ عَنِ الظُّلمِ، وهو مُخَالَفَةُ أَمْرِ ونَهْيِ مَنْ لَهُ الأَمْرُ والنَّهْيُ، وقِيلَ الظلمُ هو التَّصَرُّفُ في مِلْكِ الغَيْرِ بِغيرِ إِذْنِهِ، وَرُبَّما تَعَدَّى ضَررُ الظُّلمِ إلى الناسِ كمَنْ يقتُلُ النفسَ التِي حرَّمَ اللهُ إلّا بالحقِّ، أو يَأْكُلُ أَمْوَالَهُمْ بالبَاطِلِ كما هُوَ حَالُ كثيرٍ مِنَ الناسِ، فَتَرى مَنْ يَمْنَعُ اليَتِيمَ حَقَّهُ وَيَقْهَرُهُ لِضَعْفِهِ، أَوْ يَظْلِمُ النساءَ فَيَمْنَعُهُنَّ إِرْثَهُنَّ وَحَقَّهُنَّ، يَـحْمِلُهُ على ذلكَ حُبُّ التَّسَلُّطِ والظُّهُورِ، فَيَخُوضُ لُجَجَ الظُّلْمِ وَالظُّلُمَاتِ وَيَنْسَى مَا تَوَعَّدَ اللهُ بهِ الظالمينَ مِنَ الخِزْيِ والنَّكَالِ.

وَرُبَّما انْحَصَرَ ضَرَرُ الظُّلْمِ في النَّفْسِ الظَّالِمَةِ، وَاقْتَصَرَ شَرُّهُ علَى صَاحِبِهِ دُونَ غَيرِه كَمَنْ يَتْرُكُ الصلاةَ أو يَترُكُ صَوْمَ رمضانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، أو يَرْتَكِبُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الذُّنوبِ التِي تُوبِقُ نَفْسَهُ وَتُوقِعُهُ في شِرَاكِ جُرْمِهِ، ورُبما وقعَ الشخصُ في أَكبرِ الكبائرِ وهو الكفرُ باللهِ، وفارَقَ الإِيمانَ مِنْ حيثُ يَدْرِي أَوْ لَا يَدْرِي، فإنَّ كثيرًا مِنَ الناسِ يَتَلَفَّظُونَ بكلماتٍ تُخرِجُ قائِلَهَا منَ الإيمانِ وَهُمْ غَافِلُونَ، وهذَا مِصْدَاقُ مَا جَاءَ في حَديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي رواهُ الترمذيُّ: إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا، يَهْوِي بِها في النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا” اهـ وفِي الحَدِيثِ دليلٌ علَى أنَّ العبدَ قَدْ يَخْرُجُ منَ الإيمانِ وهو لا يَدْرِي. وقَد قالَ ربُّنا تعالى في سورةِ لُقْمَانَ إِخْبَارًا عَنْ لقمانَ أنهُ قالَ في وَصِيَّتِهِ لِوَلَدِهِ:” وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَانُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَابُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيم 13″. وأكبرُ الظُّلمِ على الإِطلاقِ الكفرُ باللهِ، قالَ تعالى في سورةِ البقرةِ:” وَٱلۡكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ 254″. أيِ ارْتَكَبُوا أَكْبَرَ الظُّلمِ، أي أنَّ كُفْرَهم أكبرُ مِنْ كُلِّ ذنبٍ.

إذًا فَقَدْ يَظْلِمُ الْمَرْءُ نفسَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِغَيْرِهِ مِنَ الناسِ بِلْ لِمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ ونَهْيَ مَنْ لهُ الأَمْرُ والنَّهْيُ، وهوَ اللهُ تعالى وحدَهُ، فإنهُ لا يجوزُ لِلْإِنْسَانِ أن يَتَصَرَّفَ في مَالِهِ ولا في نَفْسِهِ إلّا بِمَا أَذِنَ اللهُ فيهِ، لأَنَّهُ هوَ وَمَا يَمْلِكُ مَمْلُوكٌ للهِ، واللهُ تعالى هُوَ الآمِرُ الْمُطْلَقُ، فلَا ءامِرَ لهُ، وهوَ الناهي الْمُطْلَقُ فَلَا ناهِيَ لهُ، وقَدْ جاءَ في الحدِيثِ القُدْسِيِّ الذي رواهُ مسلمٌ مِنْ طَريقِ أبي ذَرٍّ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عن ربِّه تبارَكَ وتعالَى أنهُ قالَ:” يا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا “اهـ وَمَعْنَى ” حَرَّمْتُ الظُّلمَ علَى نفسِي” نَزَّهْتُ نَفْسِي عَنِ الظلمِ، فالظُّلمُ مُسْتَحِيلٌ علَى اللهِ ولَا يُتَصَوَّرُ في حَقِّهِ تعالَى، فهو مالكُ الْمُلْكِ، فَعَّالٌ لِمَا يُريدُ، يَحْكُمُ في خَلْقِهِ بِما يَشَاءُ ولا يُسأَلُ عمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وعن جابرٍ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:” اتَّقُوا الظُّلمَ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيامَةِ” اهـ رواهُ مسلمٌ. ومعنى قولِه صلى الله عليه وسلم ” اتقوا الظُّلمَ” أيِ اجْتَنِبُوا الظلمَ، فالظَّالمُ يَنْتَظِرُ العُقوبَةَ، والْمَظلومُ الصابِرُ يَنْتَظِرُ الْمَثُوبَةَ، وشَتَّانَ بَيْنَهُمَا، فعَنْ أبي موسى الأشعرِيِّ قالَ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:” إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ” ثُمَّ قَرَأَ ” وَكَذَٰلِكَ أَخۡذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ ٱلۡقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌۚ إِنَّ أَخۡذَهُۥٓ أَلِيمٌ شَدِيدٌ 102اهـ متفقٌ عَلَيْهِ.

وَلَرُبّما عَجَّلَ اللهُ العِقَابَ للظَّالِم في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، واسْتَجَابَ لِدَعْوَةِ الْمَظْلُومِينَ، فعنِ ابنِ عباسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثَ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ إلَى اليَمَنِ فقالَ:” اِتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّها لَيْسَ بينَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ اهـ رواهُ البخاريُّ. والْمُرَادُ أنَّها مَقْبُولَةٌ لَا تُرَدُّ، وقَدْ جاءَ في صَحِيحِ مسلمٍ وغيرِه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ. وكَمْ مِنْ مَظْلُومٍ وَطَّدَ نَفْسَهُ علَى الصَّبْرِ واسْتَعَانَ بِاللهِ فَعَوَّضَهُ اللهُ النَّصْرَ وَالرِّضَا والأَجْرَ، فقَدْ كادَ إخوةُ يُوسُفَ لِيوسفَ عليهِ السلامُ وأخَذَتْهُمُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فأَرَادُوا قَتْلَهُ ثُمَّ أَلْقَوْهُ في الجُبِّ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ، فَنَجَّاهُ اللهُ مِنَ الغَمِّ، وَأَتَى بِهِمْ أَذِلَّةً يَطْلُبُونَ مِنهُ الصَّدَقَةَ والْمَعُونَةَ وَهُوَ علَى خَزَائِنِ الأَرْضِ. وكمْ مِنْ ظالمٍ جَانَبَ العَدْلَ وحَالَفَ الشَّرَّ فَذَاقَ وَبَالَ أَمْرِه، وَالتَّاريخُ مَشْحُونٌ بِالْأَمْثِلَةِ الْمَحْفُوظَةِ التِي تَطُولُ بِسَرْدِهَا الْمَقَالَاتُ. والعَاقِلُ مَنْ حَفِظَ نَفْسَهُ في الدنيا، قبلَ أَنْ يُفْضِيَ إلَى يَومٍ لَا دِرْهَمَ فيهِ ولا دينار، فَعَنْ أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:” مَنْ كانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ علَى أَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ اهـ رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

فجَدِيرٌ بِمَنْ سَمِعَ أَوْ قَرَأَ هذَا أَنْ يَعْتَبِرَ ويَكُفَّ عَنِ الظلمِ، ويُقِيمَ مِيزَانَ العَدْلِ، ولَوْ علَى نَفْسِهِ، فإنَّ الظُّلمَ هَلَاكٌ عَظِيمٌ وشَرٌّ مُسْتَطِيرٌ، والعَدْلَ مَنْجَاةٌ ونُورٌ، وَطُوبَى لِمَنْ عَفَّ عَنِ الإِثْمِ، وَمَنَعَ نَفْسَهُ منَ الظُّلمِ وَلَمْ يَسْعَ لِنَيْلِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ، ولَمْ يُصْلِحْ دُنْيَاهُ بِفَسَادِ دِينِه، فَكَمْ مِنْ ظَالِمٍ تَحْتَ التُّرابِ نَدِمَ حَيْثُ لَمْ يَنْفَعِ النَّدَمُ، وكَمْ مِنْ مَظْلُومٍ في الدُّنيا سَعِيدٌ في الآخِرَةِ، فَلَقَدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا يَا رُبَّ مُكْرِمٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَهَا مُهِينٌ، أَلَا يَا رُبَّ مُهِينٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَهَا مُكْرِمٌ” اهـ رَوَاهُ البيهقيُّ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُكْرِمُ نَفْسَهُ بِالظُّلمِ فهُو مُهِينٌ لهَا في الحقيقَةِ، وسَيَرَى عَاقِبَةَ ذلكَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنْ ظُلِمَ فَصَبَرَ للهِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ البَلَاءُ عَنْ دَائِرَةِ الصبرِ والانْقِيَادِ لِلشَّرْعِ فَقَدْ أَكْرَمَ نَفْسَهُ وَسَيَرَى عَاقِبَةَ ذلكَ يومَ القِيَامَةِ، والْمُوَفَّقُ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ.

هذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ.

Next Post >

الظُّلمُ ظُلمات- خطبة الجمعة

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map