الإمام اللغوي الفيروزآبادي

في واحدة من أجمل مدن شيراز وهي كارزين ولد أحد أئمة اللغة والأدب العظام، إنه مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيرازي الفيروزآبادي الإمام اللغوي الشهير وقد اشتهر بالفيروزآبادي نسبة إلى فيروزآباد وهي مدينة جنوب شيراز كان منها أبوه وجده.

ولادته ونشأته

ولد سنة تسع وعشرين وسبعمائة هجرية، ظهرت أمارات نبوغه منذ نعومة أظفاره، فحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وجوّد الخط، مما دفع والده إلى الاعتناء به، فأقرأه اللغة والأدب، ثم أخذ به إلى مشاهير علماء شيراز، وسمع “صحيح” البخاري و”جامع” الترمذي من الشمس أبي عبد الله محمد بن يوسف الأنصاري الزَّرَنْدي المدني، وكان جُلُّ قصده في اللغة، فمهر بها حتى فاق أقرانه.

الفيروزآبادي عالم واسع العلم والثقافة، حافظ لكثير من الشعر والحكايات والنوادر وكان هذا هو سر مكانته عند الملوك والأمراء، ساعده على ذلك معرفته الجيدة باللغتين العربية والفارسية.

رحلته

دفعه نهمه في العلم إلى ترك وطنه، فخرج مُيمِّمًا وجهه شطر الفحول من العلماء في شتى الأقطار، فرحل إلى العراق، ودخل واسطَ، وقرأ بها القراءات العشر على الشهاب أحمد بن علي الديواني، ثم دخل بغداد، وأخذ عن قاضيها وغيره، ثم ارتحل إلى دمشق، فدخلها سنة خمس وخمسين، وسمع بها من التقي السُّبْكي وأكثر من مائة شيخ ثم دخل بعلبك وحماة وحلب، وبعدها دخل القدس، فسمع بها من العلائي وغيره، وكثُرَ بها الأخذُ عنه، فمِمَّنْ أخذ عنه الصلاح الصفدي، وأوسع في الثناء عليه، ثم دخل القاهرة فكان مِمَّنْ لقيه بها البهاءُ بنُ عَقيل، والجمال الإسنوي، وابن هشام، وجال في البلاد الشمالية والشرقية، ودخل الروم والهند، وعاد منها على طريق اليمن قاصدا مكة، فسمع بها من الضياء خليل المالكي وغيره، إلى أن وصل إلى زَبيد باليمن، فتلقَّاه الملكُ الأشرفُ إسماعيلُ بالقبول، وبالغ في إكرامه، وصرف له ألف دينار، سوى ألف كان أمرَ ناظرَ عدن بتجهيزه بها، وولَّاه قضاءَ اليمن كلِّه، واستمر مقيمًا في كنفه على نشر العلم، فكثُرَ الانتفاعُ به، وقصده الطلبةُ، فاستقرت قدمه بزَبيد مع الاستمرار في وظيفته إلى حين وفاته، وهي مدة تزيد على عشرين سنة بقية حياة الأشرف ثم ولده الناصر أحمد، وفي مدة إقامته بزَبيد قدم مكة مرارًا، فجاور بها وبالمدينة النبوية والطائف.

منزلته

تلقَّى الفيروزآبادي علومه عن مشاهير علماء عصره كما يتبيَّن من خلال رحلته، كما أخذ عنه علماءُ هم جهابذة زمانهم كابن حجر والصلاح الصفدي وابن عقيل والإسنوي، مما هيَّأ له إضافةً إلى نبوغه أسبابَ الشهرة، ومهَّد له الارتقاءَ إلى منزلة رفيعة، نال بها حُظوة كبيرة لدى العلماء والحكام، فأخذوا يُطرونه ويُثنون عليه ويصفون جليل قدره، وكبير شأنه.

قال ابن حجر: ولم يُقدَّر له قط أنه دخل بلدًا إلا وأكرمه متولِّيها، وبالغ في إكرامه، ويذكر ابن حجر قوة حافظته وحِدَّة ذكائه، فيقول: وكان سريع الحفظ بحيث كان يقول: لا أنام حتى أحفظ مائتي سطر. ثم ذكر أنه لقيه، وأخذ عنه، فقال: اجتمعت به في زَبيد وفي وادي الخصيب، وناولني جُلَّ “القاموس”، وأَذِنَ لي مع المُناولة أن أرويه عنه، وقرأتُ عليه من حديثه عدة الأجزاء، وسمعتُ من المسلسل بالأولية بسماعه من السُّبْكي، وكتب لي تقريظًا على بعض تخريجاتي أبلغ فيه ولقد بلغ من منزلته أن السلطان الأشرف جلس في درسه، وسمع الحديث منه.

قال الخزرجي: وفي شهر رمضان من هذه السنة سمع السلطان “صحيح” البخاري من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على القاضي مجد الدين يومئذ، وكان ذا سندٍ عال. ومما زاد في منزلته ورِفعته أن السلطان الأشرف تزوَّج بابنته، وكانت رائعة في الجمال، فنال منه زيادة البِرِّ والإكرام، حتى إنه صنَّف له كتابًا، وأهداه على أطباق، فملأها له دراهمَ. ويصرِّح الخزرجي بأنه كان شيخ عصره في الحديث والنحو واللغة والتاريخ والفقه، ومشاركًا فيما سوى ذلك مشاركة جيدة. وقال التقي الكرماني: كان عديم النظير في زمانه نظمًا ونثرًا بالفارسي والعربي، جابَ البلاد، وسار إلى الجبال والوِهاد، ورحل وأطال النَّجْعة، واجتمع بمشايخ كثيرة عزيزة، وعَظُمَ بالبلاد.

ويُورد الخزرجي خبرًا يُظهر مدى تقدير العلماء والفقهاء لمصنَّفاته، وعِظَمَ احترامهم وإجلالهم لها، فقال: وفي اليوم الخامسَ عشرَ من شعبان أفرغ القاضي مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي كتابه المسمَّى بالإصعاد، وحُمل إلى باب السلطان مرفوعًا بالطبول، وحضر سائر الفقهاء والقضاة والطلبة، وساروا أمام الكِتاب إلى باب السلطان، وهو ثلاثة مجلَّدات، يحمله ثلاثة رجال على رؤوسهم، فلمَّا دخل على السلطان وتصفَّحه، أجاز مصنِّفه المذكور بثلاثة آلاف دينار. إن هذا الموكب المَهيب الذي سار بين يدي مصنَّف من مصنَّفاته يكفي للدلالة على ذلك المقام العالي الذي وصل إليه، وتبيُّن المجد المؤثَّل الذي حصل عليه، فليس عجيبًا أن يُلقَّب إذن بمجد الدين.

قصده طلاب العلم من جميع بلاد المسلمين، ينهلون من علمه الغزير، ومعرفته الواسعة، واهتم باللغة وعلومها اهتمامًا كبيرًا حتى نبغ ومهر فيها وفاق جميع علماء عصره.
ألف الفيروزآبادي كثيرًا من الكتب أشهرها القاموس المحيط وهو معجم ضخم يضم كمًّا هائلًا من مفردات اللغة العربية وقد أثنى ابن حجر على هذا الكتاب فقال: (لا مزيد عليه في حسن الاختصار وكثير الكلمات اللغوية، وكثير أخذوه عنه).وقد أخذ عنه العلم علماء كثيرون من بلاد الإسلام أشهرهم الحافظ ابن حجر الذي أخذ عنه القاموس وأذن له أن يروي عنه جميع ما كتبه، ومن هنا نرى أن الفيروزآبادي عاش حياة حافلة بالعلم.

وفاته

مات رحمه الله في زَبيد ليلة الثلاثاء من شوال سنة 817 هـ، وقد ناهز التسعين، ولم يزل إلى حين موته متمتعًا بسمعه وبصره، متوقِّد الذهن، حاضر العقل. قال السخاوي: وكان يرجو وفاته بمكة فما قُدِّرَ له ذلك. ودُفِنَ بتربة الشيخ إسماعيل الجبرتي.

< Previous Post

أبو الأسود الدؤلي

Next Post >

ترجمة موجزة للحافظ تقي الدين السبكي

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map