بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي يخلق ما يشاء ويختار، أحمده سبحانه الواحد العزيز الغفار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وقدوة الأبرار، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى ءاله وصحبه، صلاة دائمة ما تعاقب الليل والنهار.

أما بعد فقد قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [سورة البقرة196]، واعلموا رحمكم الله أن الحج فرض عين على كل مكلف حر مسلم مستطيع، واختلف العلماء في وجوب العمرة فقيل: واجبة، وقيل: مستحبة. وللشافعي قولان أصحهما وجوبها، وأجمعوا على أنه لا يجب الحج ولا العمرة في عمر الإنسان إلا مرة واحدة.

واختلفوا في وجوب الحج هل هو على الفور أو التراخي؟ فقال الشافعي وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخي إلا أن ينتهي إلى حال يظن فواته لو أخره عنها. وقال أبو حنيفة ومالك وآخرون: هو على الفور.اهـ

وفرض سنة خمس كما جزم به الرافعي أو سنة ست كما صححه في السير وتبعه عليه النووي في الروضة ونقله في المجموع عن الأصحاب، وقيل في سنة تسع. وفي السنة التاسعة أذن صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه أن يحج بالناس فحج بهم، وأخره صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر من الهجرة بلا مانع، فحج صلى الله عليه وسلم بنفسه حجة الوداع، وكان معه أكثر أصحابه وكانت عدتهم أكثر من مائة ألف في الأشهر.

وسميت حجة الوداع بذلك لأن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودع الناس فيها ولم يحج بعد الهجرة غيرها، فقد روى البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ بِهَذَا وَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، وَوَدَّعَ النَّاسَ فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ.اهـ

قال النووي في شرح صحيح مسلم (2/57): سمِّيت بذلك لأنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- ودَّع النَّاس فيها، وعلَّمهم في خطبته فيها أمر دينهم، وأوصاهم بتبليغ الشَّرع فيها إلى من غاب عنها فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ“.اهـ

وروى مسلم في الصحيح عن قتادة قال: سألت أنسا: كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع عُمَرٍ.اهـ

واعلموا رحمكم الله بتوفيقه أن العلماء أجمعوا على جواز إفراد الحج عن العمرة وجواز التمتع والقران، بدليل ما رواه مسلم عَنْ عائشة -رضي الله عنها- قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: “مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ”  قَالَتْ عائشة -رضي الله عنها-: فَأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحَجٍّ وَأَهَلَّ بِهِ نَاسٌ مَعَهُ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِعُمْرَةٍ، وَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ.اهـ

وأما حجة النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاختلفوا فيها هل كان مفردًا أم متمتعًا أم قارنًا؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة، وكل طائفة رجحت نوعًا وادعت أن حجة النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت كذلك.

قال النووي في شرح صحيح مسلم (8/136): والصحيح أنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أولاً مفردًا ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها على الحج فصار قارنًا. وقد اختلفت روايات أصحابه رضي الله عنهم في صفة حجة النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع، هل كان قارنًا أم مفردًا أم متمتعًا؟ وقد ذكر البخاري ومسلم رواياتهم كذلك، وطريق الجمع بينها ما ذكرت أنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أولاً مفردًا ثم صار قارنًا، فمن روى الإفراد هو الأصل، ومن روى القران اعتمد آخر الأمر، ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع والارتفاق، وقد ارتفق بالقران كارتفاق المتمتع وزيادة في الاقتصار على فعل واحد. وبهذا الجمع: تنتظم الأحاديث كلها.اهـ

وقد أوضح ذلك أيضا النووي في شرح (المهذب) بأدلته وجميع طرق الحديث وكلام العلماء المتعلق بها، واحتج الشافعي وأصحابه في ترجيح الإفراد بأنه صح ذلك من رواية جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة وهؤلاء لهم مزية في حجة الوداع على غيرهم.

فأما جابر: فهو أحسن الصحابة سياقة لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروج النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى آخرها فهو أضبط لها من غيره.

وحديث جابر رضي الله عنه وهو حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد، وهو من إفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم. فهو عظيم القدر، اشتمل على قواعد كثيرة من الدين بينها صلى الله عليه وسلم عند خروجه من الدنيا وانتقاله إلى ما أعد الله سبحانه له من الكرامة، ولم يبق صلى الله عليه وسلم بعد حجته هذه إلا قليلاً بعد أن أشرقت الأرض بنوره وعلت كلمة الإيمان.

 قال القاضي عياض في كتابه إكمال الـمُـعلم بفوائد مسلم (4/265): وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا، وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءًا كبيرًا، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفًا وخمسين نوعًا، ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه”.اهـ

ونوه به الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة جابر رضي الله عنه فقال (1/36): (حمل عن النبي صلى الله عليه وآله علما كثيرا نافعا وله منسك صغير في الحج اخرجه مسلم) . وعقد له ابن كثير في الجزء الخامس من ( البداية والنهاية ) فصلا قال فيه (5/166): ( وهو وحده منسك مستقل ) ثم ساقه.

وأما ابن عمر: فصح عنه أنه كان آخذًا بخطام ناقة النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس على قوله وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وإني كنت تحت ناقة النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسني لعابها أسمعه يلبي بالحج.

وأما عائشة: فقربها من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معروف، وكذلك اطلاعها على باطن أمره وظاهره وفعله في خلوته وعلانيته مع كثرة فقهها وعظم فطنتها.

وأما ابن عباس: فمحله من العلم والفقه في الدين والفهم الثاقب معروف مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي لم يحفظها غيره وأخذه إياها من كبار الصحابة.

ومن دلائل ترجيح الإفراد أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفردوا الحج وواظبوا على إفراده.

كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، واختلف فعل علي رضي الله عنه، ولو لم يكن الإفراد أفضل وعلموا أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حج مفردًا لم يواظبوا عليه مع أنهم الأئمة الأعلام وقادة الإسلام ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم، فكيف يليق بهم المواظبة على خلاف فعل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

وأما الخلاف: عن علي رضي الله عنه وغيره فإنما فعلوه لبيان الجواز، وقد ثبت في الصحيح ما يوضح ذلك.

ومنها: أن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع، وذلك لكماله ويجب الدم في التمتع والقران، وهو دم جبران لفوات الميقات وغيره، فكان ما لا يحتاج إلى جبر أفضل.

فإن قيل: كيف وقع الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في صفة حجته صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي حجة واحدة وكل واحد منهم يخبر عن مشاهدة في قضية واحدة؟

قال القاضي عياض في إكمال الـمعلم (4/233): قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث، من علمائنا وغيرهم، فمن مجيز منصف، ومن مقصر متكلف، ومن مطيل مكثر، ومن مقتصد مختصر. وأوسعهم نفسا في ذلك أبو جعفر الطحاوي الحنفي المصري، فإنه تكلم في ذلك في نيف على ألف ورقة، وتكلم في ذلك أيضا معه أبو جعفر الطبري، وبعدهما أبو عبد الله بن أبي صفرة، وأخوه المهلب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط والقاضي أبو الحسن بن القصار البغدادي والحافظ أبو عمرو بن عبد البر وغيرهم. وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث أن النبيّ عليه السلام أباح للناس فعل هذه الثلاثة أشياء ليدل على جواز جميعها، إذ لو أمر بواحد لكان غيره لا يجزئ، وإذا كان عليه السلام لم يحج سوى هذه الحجة فأضيف الكل إليه كما تقدم، وأخبر كل واحد بما أمره به وأباحه له ونسبه إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما لأمره به وإما لتأويله عليه. وأما في حقه عليه السلام فأخذ بالأفضل أنه إنما أهل بالحج مفردًا وبه تظاهرت الأخبار الصحيحة”.اهـ كلام عياض

وهاكم رواية جابر رضي الله عنه التي أخرجها مسلم في الصحيح في بيان صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، مع تعليق وشرح لطيف من القاضي عياض والنووي وغيرهما.

< Previous Post

تلبيات الحج

Next Post >

خطبة الجمعة | فضل العشر الأول من ذي الحجة

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map